محمد محمد خير يكتب: بلة العربجي
(1)
بلّة العربجي
قال الرسول الكريم: “ما من مسلم يصيبه أذى من مرضٍ فما سواه، إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها”.
وقيل لإعرابي في مرضه “ما تشتهي؟ قال “الجنة”. قيل “أفلا ندعو طبيباً؟” قال “طبيبي هو الذي أمرضني!”.
لأسبوعٍ ونصف، كنت نهباً للحمى وأوجاع الروح والمفاصل والموات التَّام والعَطْس المتصل بلا انقطاع وفقدان الشهية، كان رأسي كميناء ترسو عليه السفائن، ولصدري صوت مثل شهقة (الرتينة) أحسّ بخور ووهن، وكان أكثر ما يزعجني صوت التلفون ومرور الهواء على بدني الذي استعصم بغمده فأصبح خارج طاعتي!!.
في الليل، حين أنام ذلك النوم (الخذاز)، أرى في النوم كوابيسَ وأحلاماً. حلمت في أيام العلة بالإمام الصادق المهدي، كنت أجلس معه داخل قطيته وكنا نتجاذب سير الأفارقة العظماء أذكر منهم ما اتضح لي في المنام جلياً. ديالو تيلي أول رئيس لمنظمة الوحدة الأفريقية، لكن المنام لم يستمر طويلاً فقد دخل على خط الكوابيس (عمي بلة العربجي)؛ كان نموذج البوهيمية الفطرية في سوق أمدرمان في التسعينيات، ليس له أهل ولا أحد يعرف أين يسكن وليس له أولاد، كان طوال النهار يشرب الخمر من قنينة يحملها في جيب الصديري، لا صلة له بأي كائن حي إلا بحصانه، بيد أنه يغازل الكائنات الحية من ذوات الثدي؛ فحين يرى امرأة عائدة لبيتها من السوق يصيح بها (قسمتي الدم… شلتي الخفيف… وأحيتينا التقيل)! سبحان ربك ما الذي يجمع بين الإمام المهدي وبين (بلة العربجي) غير علتي التي أصابت البدن واللاشعور والمخيخ؟!!
في الأيام الثلاثة الأولى، ركنت للتطبب بالأعشاب في مؤازرة (للطب البديل) فأشارت لي جيهان بنت أختي إلى (اللبان العدني) وهاتفتني زوجتي من كندا موصية بحزمة وازنة بينها الفلفل والجنزبيل والليمون الناشف، وأشارت لي بجلب حزم من (الرجلة) وسلقها بالماء والاستحمام بمائها المسلوق، وما إن فعلت ذلك بطواعية حتى أتاني في المنام (بلة العربجي)!.
لم تكن تلك أولى تجاربي مع الطب البديل، فقد مرضت قبل عامين في قطر مرضاً أصبح حديث مجالس الدوحة، وكنت أتابع محطة فضائية أيام علتي، تبث برامجَ لخلطات عشبية تعالج الكثير من الأمراض على حد زعم القناة، وفي إحدى فقراتها كان المذيع ينشئ خلطة لأوجاع المفاصل والتهاب الأوعية، كنت أتابع ذلك باهتمام وأكتب مكونات الخلطة على ورقة وطريقة الخلطة ومقدار زمنها على النار، غير أنني لم أستعمل تلك الخلطة التي سجلت كل أصنافها ومقاديرها لأن المذيع أشار إلى أن هذه الخلطة تستعمل (في اليوم الثالث للدورة الشهرية)!!.
زارني العديد والكثير من الأصدقاء الذين كانت مواساتهم في مقام الطب البديل، فالأصدقاء هم من يعيدون الروح إلى مسارها السالك، ومن يعيدون أيضاً الجسد إلى غمده، من الزيارات التي أسعدتني زيارة الشابين عفيفي وحسن إدريس، وحسن من الوجوه الحسنة التي أحبها لوجه الله.
(2)
القطر قام
أتعاطى خمسة أنواع من الحبوب يومياً، وبشكل مؤبد ومستمر لا يتوقف، إلا حين أسكن (ود الأحد)، وهذه الأدوية تكلف شهرياً مبلغ 2800 جنيه بالتمام، ضمنها حبة واقية من التقرح نسبة للاستعمال اليومي للعقاقير، يبلغ سعر الواحدة منها 50 جنيهاً بتوقيت صيدلية المك نمر!.
حين تكاثرت هذه النصال عليّ قررت الدخول للخطة (ب)، وهي الاستغناء عن هذه الأدوية، واللجوء للأعشاب، والزيوت، وحب البركة، وخل التفاح، والعسل الأصلي.. وبدأت رحلتي منذ مطالع هذا الشهر بتناول أربعة أكواب ماء ساخن (على الريق) وقبل السواك، وهو نمط في التداوي يقوم على خلفية صينية.. الكوب الأول يذاب فيه العسل الأصلي، وذلك لمصلحة الكبد، والثاني يضاف إليه خل التفاح، وهذا يصب في مصلحة القلب، والثالث يذاب فيه الصمغ العربي، وذلك ما يخفض السكر في الدم، أما الرابع فيُشرب صافياً وساخناً لصالح سائر الجسد، ولكني أتساءل هل يكون الكوب الثاني والثالث والرابع ملبياً لشرط (على الريق)؟، لأن الكوب الأول هو الذي يلبي هذا الشرط. سألتُ هذا السؤال لصديقنا أسامة سيد أحمد الذي يحرص على هذا النمط من التداوي من قبل أعوام كثيرة، فكان اقتراحه لي أن أتبع طريقة (القطر قام)؛ وذلك بخلط كل هذه العناصر بما مقداره أربعة أكواب وتناولها مرة واحدة، وأوصاني أيضاً بخمسِ تمراتٍ (على الريق)!.
أحصيت عدد القنوات الفضائية التي تقدم مادة مكدسة للطب البديل على طبقي نايل وعربسات، فوجدتها تتجاوز الثلاثين قناة، وتابعت ذات مرة قناة تهتم بتطبيب النساء.. وتابعت فقرة عنوانها (تكبير الأرداف) تحظى هذه الفقرة بمتابعة عالية من خلال الرسائل النصية والمحادثات تتجاوز مئات الآلاف، بدا لي أنها الأنجح عملياً في الطب البديل!
(3)
البخل في منتهاه
كان عامل يعمل مع والدي عليه رحمة الله (بالجزارة)، كان شديد البخل على نفسه وحتى على الكلاب التي تحوم حول الجزارة. اتخذ البخل فيه تجليات عديدة، ضمنها أنه يسير حافياً كي لا يَبلى الحذاء، وحدث أن صادفه نثار زجاج وهو حافي القدمين أصابه بجرحٍ عميق في بطن قدمه اليمنى فذهبنا به للمستشفى وبعد خياطة الجرح بالبنج الموضعي قال لوالدي (ما الحمد لله يا محمد خير ما كنت لابس الجزمة؟!).
أحالني هذا العامل لسِيَر البخلاء الذين وردوا في حكاوي الجاحظ وما ورد في المستظرف، فقد قيل إن بخلاء العرب أربعة؛ الحطيئة الذي عُرف بالهجاء وحميد الأرقط وأبو الأسود الدؤلي وخالد بن صفوان، كما قيل أيضاً إن أبا الطيب المتنبي كان بخيلاً جداً. أما الحطيئة فقد مر به رجل وهو على باب داره وبيده عصا فقال الرجل للحطيئة: أنا ضيف. فقام الحطيئة بمصافحة العصا؟.
أما حميد الأرقط فقد كان هجاءً للضيفان فحّاشاً بهم، قيل نزل به مرة ضيفان فأطعمها تمراً ثم هجاهما وجاء في هجائه أنهما أكلا التمر بنواه. أما خالد بن صفوان فقد كان يقول للدرهم إذا دخل عليه: يا عيّار كم تعير، وكم تطوف وكم تطير، أقسم بالله لأطيلن حبسك، ثم يطرحه في الصندوق ويقفل عليه، وقيل له لم لا تنفق ومالك عريض؟ فقال: لكن الدهر أعرض.
وهناك أهل بلاد موصوفون بالبخل، يقال من عاداتهم إذا ترافقوا على سفر أن يشتري كل منهم قطعة لحم ويشكها في خيط ويجمعون اللحم كله في قدر ويمسك كل واحد طرف خيطه، فإذا استوى اللحم جر كل منهم وأكل لحمه ثم تقاسموا المرق!!
قيل لبخيل من أشجع الناس في نظرك؟ فقال: من سمع وقع أضراس الناس على طعامه ولم تنشق مرارته.
وقال شاعر يَصِف بخيلاً قيل إنه من شدة البخل إذا رأى ضيفاً في المنام بات عامه ساهراً:
نوالك دونه شوك القتاد،
وخبزك كالثريا في البعاد،
فلو أبصرت ضيفاً في منام،
لحرّمت الرقاد إلى المعاد.
وقال شاعر آخر يصف قوماً بأنهم من شدة البخل يعيشون في ديارهم حياة سرية، بحيث لا يلفتون النظر لأي شيء يمكن أن يدل ضيفاً عليهم، قال الشاعر:
تراهم خشية الأضياف خرساً يقيمون الصلاة بلا أذان.
ومن نوادر ما قيل عن البخيل حين يعطي مخالفاً طبيعته أن بخيلاً أعطى قطعة خبز ناشف لسائل ذات يوم فذاع الأمر وعم البلاد وبلغ كل الناس حتى وصل لأذن الشاعر الذي قال:
لا تعجبن لخبز ذلّ من يده
فالكوكب النحس يسقي الأرض أحياناً
وقال رجل يحكي عن سهل بن هرر المعروف بالبخل، قال كنا عنده ولم نبرحه حتى جاع واضطر أن ينادي غلامه ليأتي بالغداء حين كاد يموت من الجوع، فأتى الغلام بإناء فيه ديك مطبوخ. فتأمل سهل الديك فرآه بغير رأس، فقال لغلامه وأين الرأس؟ فأجابه الغلام رميته، فقال سهل إني أكره أن يرمى برجله فكيف برأسه؟ ويحك يا غلام أما سمعت بأن الرأس رئيس الأعضاء، ومنه يصيح الديك؟ أما سمعت أن عينه يضرب بها المثل فيقال شراب كعين الديك؟، ودماغه شفاء لوجع الكلية ولم تر عظماً أهشّ تحت الأسنان من عظم رأسه؟ وهنا عرف الغلام بأنه قد أكله فكاد أن يفتح بطن الغلام ليأتي برأس الديك لو لا تدخل الضيفان!.
من أرشيف الكاتب
صحيفة الانتباهة