عثمان ميرغني يكتب.. مؤتمر لمناقشة المؤتمرات
يصبح السؤال المحوري الحتمي: هل هناك أثر ومردود لهذا الطوفان من ورش العمل والمؤتمرات والذي تُنفق فيه أموال ضخمة وآمال عراض؟
خلال الأيام الثلاثة الماضية، انعقدت في الخرطوم ورشة عمل اقتصادية شارك فيها خبراء مختصون ورجال أعمال وساسة، ناقشت الأوراق القضايا المعهودة مثل السياسات المالية، والاستثمار، وغيرهما، واحتفى الإعلام بصور الورشة والمشاركين فيها، خاصة أنها تنعقد في ظروف تعاني فيها البلاد من عملية شد وجذب بلغت ذروتها.
لكن ورشة العمل الاقتصادية هذه لم تكن حدثًا فريدًا نادرًا؛ فقبل عدة سنوات، بالتحديد في الأسبوع الأخير من سبتمبر 2020، عقد المؤتمر الاقتصادي القومي في ظل حكومة الفترة الانتقالية برئاسة الدكتور عبد الله حمدوك ، وشارك فيه عدد كبير من الخبراء الاقتصاديين والساسة بتغطية إعلامية كبيرة، وانتهت أيام المؤتمر بالسؤال الكبير: ثم ماذا بعد هذا؟
ومنذ بداية هذا العام 2023 انطلقت عدة ورش عمل بحسب مطلوبات الاتفاق الإطاري الموقع، في 5 ديسمبر 2022، وبدأت أول ورشة عمل بملف تجديد بتفكيك تمكين الثلاثين من يونيو 1989، واستغرقت 4 أيام، ثم بدأت ورشة للنظر في اتفاق السلام الموقع بين الحكومة والحركات المسلحة، واستمرت 4 أيام من التداول الذي نقلته وسائل الإعلام، وأخيرًا انعقدت ورشة أخرى للنظر في قضايا شرق السودان، ولا تزال في جدول أعمال الاتفاق الإطاري ورشتان، واحدة حول العدالة الانتقالية، وأخرى أخيرة حول إصلاح المنظومة العسكرية والأمنية.
هذه المؤتمرات والورش كانت الأبرز، لكن هناك مئات الورش والمؤتمرات الأخرى التي تكاد تنعقد بصفة يومية في السودان تناقش كل شيء، من “الإبرة إلى الصاروخ” على حد التعبير الشهير، لدرجة أن نشرات الأخبار الرئيسة في الإذاعة والتلفزيون الحكوميين في السودان تكاد تنصرف كليًا لمتابعة تفاصيل أخبار هذه الورش، والتي لا تنحصر على العاصمة بل حتى الولايات – المتخمة بأزمات حقيقية- تنافس العاصمة في كثافة الورش و المؤتمرات.
يصبح السؤال المحوري الحتمي: هل هناك أثر ومردود لهذا الطوفان من ورش العمل والمؤتمرات والذي تُنفق فيه أموال ضخمة وآمال عراض؟
الواقع؛ أن العقلية السياسية – وربما الإدارية أيضًا – السودانية تنظر للفعاليات بكونها عملًا وإنجازًا في حد ذاته دون ارتباط بنتائجه.
في التجارب السودانية المختلفة على مر العهود السياسية، لا ترتبط المؤتمرات وورش العمل والندوات والمنتديات بمصير قراراتها أو توصياتها، رغم أن العقول التي تشارك في هذه الفعاليات غالبًا من خلاصة المفكرين والخبراء السودانيين والأجانب ويقدمون عصارة تجاربهم، ويضعون الأطر النظرية والعملية التي يمكن ان تساهم فعلًا ليس في حل الأزمات بل ترقية الأداء، إلا أن العلاقة بين هذا المجهود وأجهزة صنع السياسات وإصدار القرارت تكاد تكون غائبة تمامًا.
في العادة، عندما تنشأ فكرة مؤتمر أو ورشة عمل، فإن الهم الأكبر ينصرف إلى توفير التمويل المناسب للصرف على أعمال الترتيب والتنظيم وإدارة المنشط وتغطياته الإعلامية، ولا يتم بذل مجهود في تحديد الأوعية التي تصب فيها مقررات هذه المنتديات، ولا الطريقة التي تجعل مخرجاتها قابلة للتنفيذ أو حتى للبناء عليها مستقبلًا في مزيد من البحث والخبرة التراكمية.
لنأخذ مثالًا لذلك، المؤتمر الاقتصادي القومي الذي انعقد في 25 سبتمبر 2020 في ظل الحكومة الانتقالية برئاسة الدكتور عبدالله حمودك، تواصل الأعداد والحديث عن هذا المؤتمر منذ بداية الحكومة الانتقالية في سبتمبر 2019، وأحيلت كثير من القضايا خاصة الخلافية، مثل التي تتعلق برفع الدعم عن السلع الأساسية إلى هذا المؤتمر.
ثم أقيم المؤتمر في قاعة الصداقة في الخرطوم تحت أنوار الإعلام الكاشفة التي احتفت بالحدث ونقلت جلساته على الهواء مباشرة مع التغطيات الخبرية والتحليلية على مدار الأيام التي انعقد فيها.
وبعد نهاية أعمال المؤتمر الاقتصادي القومي كان السؤال الأهم: إلى أين ستذهب توصياته؟ بل وقبل ذلك كيف يمكن أن تتحول التوصيات ذات الصيغة العلمية أو النظرية إلى سياسات قابلة لصناعة القرارات التنفيذية.
وبعد عدة شهور من انتهاء أعمال المؤتمر ثار السؤال بصورة أكثر إلحاحًا: ما الذي أنتجه المؤتمر من حلول؟ وفي أي دُرج تقبع توصياته؟
من الحكمة أن ينعقد مؤتمر قومي للبحث في سبل ترفيع العائد من المؤتمرات وورش العمل، ولنسمه “مؤتمر المؤتمرات”.
وبعد شهور من الانقلاب العسكري، وبالتحديد في يونيو 2022، عقدت ورشة عمل مهمة لتقييم تجربة قوى الحرية والتغيير، ونالت تغطية إعلامية كبيرة لما فيها من أسماء وشخصيات شاركت في صنع القرار والمصير خلال فترة الحكومة الانتقالية الأولى والثانية، وحتى هذه اللحظة لا أحد يستطيع أن يعطي إجابة دقيقة لتأثير هذه الورشة على تجرب الحرية والتغيير بعد ذلك، فليس في أدبيات قوى الحرية والتغيير المتاحة ما يؤكد أن تلك الورشة كانت مرجعية لأية تعديلات أو سياسيات مستجدة.
الواقع أن العقلية السياسية – وربما الإدارية أيضًا- السودانية تنظر لمثل هذه الفعاليات بكونها عملًا وإنجازًا في حد ذاته دون ارتباط بنتائجه.
فورشة العمل أو المؤتمر الذي يتم فيه بذل جهد كبير في الإعداد والتنظيم والتمويل هو عمل محصور في حدوده هذه ونتائجه في مساحات التغطية الإعلامية، ولا علاقة له بما هو منتظر من ثماره، وأشبه بمن يعد الأرض للزراعة فيحرثها ويوفر لها مطلوبات البذور والمخصبات والري، وبمجرد التقاط الصور الجميلة للمساحة الخضراء بعد الإنبات تنتهي الدورة الزراعية وتترك الأرض الخضراء بلا ماء ولا رعاية ولا انتظار لحصاد الثمر، فتذبل ثم تموت حتى يأتي موسم آخر لتكرار العملية ذاتها بلا حصاد مهما دارت السنوات.
الدكتور منصور السياسي والكاتب المعروف أبدع في تصوير هذه العُقدة فقال: “السودانيون يظنون أن مجرد الحديث عن المشكلة يحلها، فتكثر المؤتمرات وورش العمل، وتهدر فيها أموال ضخمة، ثم النتيجة لا تزيد على الصور التي تلتقطها وسائل الإعلام.
وعودًا إلى ورشة العمل الاقتصادية التي أقيمت، خلال الأيام الماضية، ما مصير توصيات هذه الورشة؟ وهل هناك جهة مركزية أو بحثية واستشارية في الدولة تجمع وتراكم مستخلصات هذه الأنشطة لتجعلها من أدوات دعم وصنع السياسات في الحاضر أو المستقبل؟
الإجابة واضحة، فأين ذهبت –مثلًا- مقررات مؤتمر أركويت الشهير؟
ولمن لم يسمعوا به، بدأت سلسلة مؤتمرات تحت إشراف جامعة الخرطوم تنعقد تحت هذه الاسم، منذ العام 1966، حتى بلغت المؤتمر رقم 16 في 2018، ورغم السنوات الطويلة العابرة للعهود السياسية لكن ليس هناك أي مقياس عملي وعلمي لمردود هذه السلسلة من مؤتمرات أركويت، بل ليس هناك إحساس بالحاجة لمعرفة وسبر أغوار العائد من هذا المؤتمر على الأقل لتقييمه أو تقويمه.
من الحكمة أن ينعقد مؤتمر قومي لبحث سبل ترفيع العائد من المؤتمرات وورش العمل، ولنسمه “مؤتمر المؤتمرات”.
إرم نيوز