مهن ومحن (37)
منذ أن هاجرت من وطني طلبا للرزق في منطقة الخليج، ظلت أمي تزن وتطن في أذني طالبة مني أن امتلك بيتا في الخرطوم، ومن ينتمون إلى بيئات زراعية مثلي ومثل أهلي في شمال السودان، يعتبرون الشخص الذي لا يملك أرضا مهما صغرت مساحتها «مقطوعا من شجرة»، وهكذا وحتى عندما يهاجر أهلي إلى مدن السودان الكبيرة فإن همهم الأول يكون امتلاك أرض يشيدون فيها منزلا، ولهذا اشتهر أهلي النوبيون في مدن السودان بأنهم رواد السكن العشوائي، ولأنهم يتكئون على حضارة عريقة، فإنهم يعرفون التكتيك ذا النتائج المضمونة لوضع السلطات الحكومية أمام الأمر الواقع، وهكذا وفور أن يتكاثروا في مدينة ما يحددون منطقة في أطرافها ويشرعون في بناء مساكن بمواد ثابتة عليها، وعلى بال ما تنتبه الحكومة إلى ظهور حي طرفي جديد، يكون سكان ذلك الحي قد تكاثروا وتناسلوا، ويصعب على الحكومة إجلاؤهم من الأراضي التي استولوا عليها من دون تراخيص وتصديقات رسمية، وقد برع النوبيون في إنشاء الأحياء الطرفية من وراء ظهور الحكومات بدرجة أنهم يأتون بمتخصصين في تخطيط الأحياء والشوارع ويطلبون منهم تخطيط الأحياء العشوائية طبقا للمواصفات التي تحددها سلطات المجلس البلدي أو التخطيط العمراني، وبهذا يضمنون أن أجزاء من مساكنهم لن تتعرض للبتر والهدم بذريعة «التخطيط» عندما ترتفع أصواتهم مطالبة بخدمات مثل الكهرباء والماء، ولأهلي في هذا المضمار «بجاحة» جديرة بالإعجاب، لأنهم محترفون في مجال الاحتجاجات وتقديم العرائض، بعد أن علمتهم التجارب ان «الحكومة ما تجي إلا بالضغط»، وهكذا تنسى الحكومة أمر عشوائية هذا الحي أو ذاك وتسعى لخطب ود السكان بتوفير الخدمات لهم، وتأمل بهذا أن تكسب القلوب والأصوات في الانتخابات.
وأذعنت لضغط أمي وشيدت بما سمحت به إمكاناتي المادية بيتا في حي شعبي، ودخلت البيت وخرجت كذا أسرة، كان بعضها ينتظم في دفع «الإيجار» وبعضها يماطل ويراوغ، ولكن كلما رحل عن البيت مستأجر اضطررت لإنفاق مبلغ يعادل أو يناهز الأجرة التي تسلمتها منه على مدى مدة الأجرة في «الصيانة»، وهكذا قررت بيعه، من دون علم أمي، ووضعت على مدخله لافتة «للبيع.. رقم الهاتف.. الوسطاء يمتنعون»، وبعد سيل من الاتصالات واللقاءات جاءني رجلان، وأعرب أحدهما عن استعداده لشراء البيت بالسعر الذي حددته له في اتصال هاتفي، وسلمني المبلغ نقدا وكتبنا وثيقة إقرار بيع مبدئية، على أن نستكمل الإجراءات مع السلطات المختصة، وهنا قال الرجل الثاني: نصيبي كذا، فسألته: نصيبك من ماذا؟ قال: من قيمة البيت الذي بعته، فسألته مجددا: ليه كنت خلفتك ونسيتك؟ فقال إنه سمسار وإنه من أتى بالمشتري، فقلت له: ولكنني لم أكلفك بأن تأتي بمشترٍ، فقال: يظهر يا أستاذ أنك مش عارف نظام السمسرة، فقلت له: بل أعرف أنه لا يوجد نظام في السمسرة.. واشرب العصير الذي أمامك واعطني عرض أكتافك، فاحتج الرجل: دا ظلم وأنا لن أتنازل عن حقي، فسحبت كوب العصير الموضوع أمامه وأمرته بمغادرة بيتي فورا، ولما أدرك أنني غاضب وجاد فيما أقول خرج وهو يردد: أشيل حقي منك يوم القيامة.
وكانت تلك أول مرة أتعامل فيها مع سمسار وجها لوجه، ورغم أنفي، لأنني كنت وما زلت أعتقد أن 97% ممن يمارسون السمسرة في بلداننا مستهبلون، وبالتالي يسيئون إلى سمعة السماسرة المحترمين حاملي التراخيص والذين يتعاملون في شؤون بيع الأراضي والسيارات وغيرها وفق أصول وشروط متعارف عليها، وغدا إن شاء الله أناقش لماذا اعتبر شريحة كبيرة من السماسرة مستهبلين.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]