محمد محمد خير يكتب.. ظروف بالغة التعقيد
هنالك عبارات مصنوعة خصيصاً للسودان؛ فهذه العبارة (في هذه الظروف البالغة التعقيد) أو (هذه المرحلة الحرجة)، عبارة ظلت تلازم مسارات العمل السياسي في السودان، منذ خروج المستعمر، وظل مدلولها ومعناها في الحياة العامة يتعمق كل يوم، مكرساً حالة استثناء مطلقة.
لم يستطع أي نظام حكم شمولي أو ديمقراطي منتخب، أو جاء (زندية)، أن يستقر ويوظف ركائزه وينطلق دون قيود، إذا رضي عنه الناس في الداخل، قابله الخارج بالرفض وحاك له ما استطاع إليه سبيلاً من التآمر الضمني أو الصريح، وإذا رضي عنه الخارج قابله الداخل بالرفض المتسع والتظاهر، واتهمه بالعمالة المباشرة للإمبريالية العالمية!!
وأنا منذ صباي أعيش حالة “هذه الظروف البالغة التعقيد” كل يوم، مرفوقة بالذعر والخوف من الغد والتوجس من المستقبل و”انقطاع العشم” في كل شيء. هاجرت في “ظروف بالغة التعقيد”، وعدت في ظروف أكثر تعقيداً، إذا اقتربت الحكومة من حل أزمة دارفور، تظهر جبال النوبة، وإذا اقتربت الحكومة من الجبال تتمرد الربى والسفوح.
وفي “هذه الظروف البالغة التعقيد” ينسد كل شيء، فما الناس بالناس الذين عرفتهم، ولا الدار بالدار التي هي أعهد.
أصبحت الحياة ماسخة وشوهاء، عجفاء ومظلمة، والثابت هو الحزن، والمتحول هو الفرح المؤقت الذي يفارقك “في البرهة القليلة”، الأنس أصبح “شكية”، وطعم الناس ما عاد ذلك الطعم الذي يشدك ويجعلك تتأمل المفردة الشجية، والحكوة الجاذبة، والضحك الصافي؛ في هذه الظروف البالغة التعقيد، التي صارت وشمنا وعنواننا وحياتنا وسمتنا.
وأنا أكتب هذه الزاوية، اتصل بي الصديق الناجي سالم يخبرني بعودته من الجزيرة، لم أتذكر أيَّ شيء مشرق أسأله عنه وعن الجزيرة غير “الجندب”، الذي غزا أرض المحنة، فأخبرني أن الناس يطفئون المصابيح الكهربائية خوفاً من الجندب الذي لا يأتي عادة إلا في “ظروف بالغة التعقيد”!!.
وأتانا صيف منفلت حرارته إبر في رأسنا، جاءنا مصحوباً بالأتربة، والصفير كلحن تساقط الثمر المتخثر، أصبحنا على موعد مع ضربات الشمس والكحة الناشفة، في غياب المضادات الحيوية في الصيدليات لأنها تعمل في “ظروف بالغة التعقيد”.
لك الحمد مهما استطال البلاء
ومهما استبد الألم
لك الحمد إن الرزايا عطاء
وإن المصيبات بعض الكرم
كان ذلك آخر شعر كتبه بدر شاكر السياب، بعد أن أنهكه السل، وعصف بجسده السقم، في وقت كان يعيش فيه العراق ظروفاً بالغة التعقيد!!.
صحيفة الانتباهة