أثارت تصريحات أدلى بها، أمس الأول الخميس، الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني والقائد العام للجيش، رعبًا حقيقيًا، لدى كثير من السودانيين الذين اعتبروها في مقام “الحرب أولها كلام”، فكأنما هي إعلان رسمي لحالة مواجهة عسكرية-عسكرية في بلد يعاني من غياب حكومة تنفيذية لقرابة 15 شهرًا.
البرهان في خطابه بمنطقة “الزاكياب” (15 كيلومترًا شمال الخرطوم) أمام مجتمع أهلي، الخميس الماضي، قال: “لو ظن شخص أن هناك جهة يمكنها تخويف الجيش السوداني أو هزيمته سنقول له، أنت غلطان..”، ولمزيد من توضيح الصورة قال: “نحن دعمنا الاتفاق الإطاري لأن فيه بندًا يهمنا كعسكريين وهو دمج قوات الدعم السريع في الجيش.. وإذا شعرنا بأن هذا لا يتحقق لن نستمر فيه”.
ولمزيد من تأكيد ذلك، قال إن على الذين يظنون أنهم أقوى من الجيش مراجعة أنفسهم، فحتى لو تآمروا على قيادة الجيش فإن ذلك لا يكسره ولا يخضعه.
دمج قوات الدعم السريع في الجيش السوداني لم يكن أحد يظن أنه بات من قضايا السجال السياسي، فهو منصوص عليه في الاتفاق الإطاري، وكل التصريحات السياسية التي صدرت من المكونات المدنية والعسكرية ظلت تؤكد عليه.
هذه التصريحات الخطيرة سبقتها حملة خطابية قادها، خلال الأيام الماضية، الفريق أول شمس الدين الكباشي عضو مجلس السيادة السوداني، الذي سافر إلى ولاية جنوب كردفان التي ينحدر منها، وأطلق سهامًا حادة تبدو كما لو أنها موجهة لرفيقه الفريق أول محمد حمدان دقلو النائب الأول لرئيس مجلس السيادة.
وفي الوقت ذاته، سافر دقلو إلى دارفور مع وفود سيادية وعدلية وأمنية، لمتابعة إجراءات بدأت من زيارة سابقة تستهدف التحقيق في أحداث منطقة “بليل” التي شهدت أحداث عنف دامية.
فهل انتقلت عدوى الخلافات بين المدنيين إلى العسكريين وباتت المواجهة السياسية التي لم تجد حتى الآن مخرجًا من أزمة تشكيل حكومة تنفيذية مدنية تتحور إلى مواجهة بين المكونات العسكرية، قد تضع البلاد كلها في طريق مظلم لا يعلم أحد إلى أين يفضي؟
دمج قوات الدعم السريع في الجيش السوداني لم يكن أحد يظن أنه بات من قضايا السجال السياسي، فهو منصوص عليه في الاتفاق الإطاري، وكل التصريحات السياسية التي صدرت من المكونات المدنية والعسكرية ظلت تؤكد عليه، بل حتى قائد قوات الدعم السريع الجنرال دقلو نفسه، وهو المعني مباشرة بذلك، أكد موافقته على دمج الدعم السريع في الجيش، وكرر هذا الالتزام في أكثر من مناسبة وعلى رؤوس الأشهاد.
فما الذي –فجأة- حوَّل ذلك إلى قضية خلافية مرفوعة على أسنة الرماح؟
يظل السؤال: حتى لو اكتمل دمج قوات الدعم السريع في الجيش، أين تذهب استثمارات الدعم السريع؟
الدعم السريع عندما تأسس خلال سنوات حكم النظام السابق، نشأ كترياق للحركات المسلحة في دارفور والتي كانت ترهق الحكومة عسكريًا وماديًا بل وحتى معنويًا، من خلال الضغط عبر منظمات حقوق الإنسان، وإلى حد كبير نجحت قوات الدعم السريع في إنزال هزائم عسكرية متوالية أدت لتحجيم الحركات المسلحة، مما جعل النظام السابق يستثمر في قوات الدعم السريع ويفتح لها آفاقًا واسعة للتجنيد والانتشار رأسيًا وأفقيًا، ثم طورت قوات الدعم السريع مؤسسات اقتصادية وافرة الموارد تعمل في عدة قطاعات منها الذهب.
وبعد انتصار ثورة ديسمبر لم يجد قائد قوات الدعم السريع صعوبة في الصعود إلى قطار الثورة مستثمرًا عدم تورط قواته في مقاومة الحراك الجماهيري طوال 5 أشهر من بداية التظاهرات، في 19 ديسمبر 2018، حتى سقوط النظام، في 11 أبريل 2019، لدرجة أن لافتة كبيرة في ساحة الاعتصام أمام قيادة الجيش حملت صورته وعبارات داعمة له.
وكان أزهر سنوات الخصب لقوات الدعم السريع بعد الثورة، حيث تولَّى قائد الدعم السريع منصب النائب الأول لرئيس مجلس السيادة ليجمع بين 3 سلطات: السلاح، والسياسة، والمال. وبهذا الوضع، تحولت قوات الدعم السريع إلى مؤسسة ثلاثية الرؤوس تجمع السلطة، والثورة، والقوة العسكرية، وتمددت جغرافيًا في أرجاء السودان كافة بحكم تفويضها في حفظ الأمن في مواقع التوترات خاصة النزاعات الأهلية.
ومع تطورات الخلافات السياسية ومحاولات المكونات المدنية اللعب على حبل ثنائية القوة العسكرية الموزعة بين الجيش والدعم السريع، استطاع الفريق أول دقلو أن يُحول منصب نائب رئيس مجلس السيادة، إلى الرئيس مشترك لمجلس السيادة، حيث أضحى بروتوكوليًا رديفًا للمنصب الأول، حتى في التوقيع على الاتفاق الإطاري بجانب توقيع رئيس مجلس السيادة.
وبهذا المشهد المثير للدهشة، لم يعد قرار دمج قوات الدعم السريع في الجيش يثير أسئلة عن التفاصيل الفنية العسكرية وحدها، فهي ليست مجرد قوات عسكرية، بل مؤسسة اقتصادية ضخمة ومتعددة الأنشطة والاستثمارات، ويظل السؤال: حتى لو اكتمل دمج قوات الدعم السريع في الجيش، أين تذهب استثمارات الدعم السريع؟
قضية دمج قوات الدعم السريع في الجيش لا تصلح لتفسير الخطاب المتبادل بين رئيس مجلس السيادة ونائبه، والأجدر البحث عن أسباب أخرى، غالبًا ذات بُعد سياسي أو ربما شخصي.
صعوبة الإجابة عن هذا السؤال ليس لكون الفصل بين الوجهين العسكري والاقتصادي للدعم السريع أشبه بفصل توأمين ملتصقين بالرأس فحسب، بل لصعوبة الفصل بين استثمارات الدعم السريع كمؤسسة وقيادته كأشخاص.
لعب الشقيقان محمد وعبد الرحيم دقلو دورًا أساسًا في الارتقاء باستثمارات الدعم السريع الاقتصادية، حيث اعتمدا على خلفيات خبرة سابقة في التجارة، واستطاعا عبور كثير من الحواجز في وقت قياسي، وبنجاح مذهل داخل وخارج السودان.. ومن العسير إرجاع الفضل في نجاح استثمارات الدعم السريع للمؤسسة بعيدًا عن شخصيتي قائده وشقيقه، ومن هنا تبدو عُقدة جدلية دمج المؤسسة الاقتصادية للدعم السريع لتصبح جزءًا من المؤسسات الاقتصادية التابعة للجيش السوداني.
ارتباط الدعم السريع بإمبراطورية اقتصادية ضخمة له تأثير كبير على قرار الدخول في مواجهة مع الجيش أو حتى القوى الإقليمية والدولية بجانب المكونات السياسية المدنية المتصارعة، فلو كان هناك طرف سوداني واحد لا يتمنى الحرب أو حتى الاقتراب منها فهو بالطبع الطرف الذي تشكل الحرب خطرًا كبيرًا على وجوده الاقتصادي، ويزداد هذا الإحساس بالخطر إذا ارتبط بشخص أو أسرة أو مجموعة.
والحرب بالنسبة للدعم السريع ليست مجرد معارك عسكرية بل اقتصادية في المقام الأول، أشبه بإطلاق الرصاص من خلف حاجز زجاجي، على رأي المثل الشعبي (من كان بيته من زجاج لا يلقي الحجارة على الآخرين).
قضية دمج قوات الدعم السريع في الجيش لا تصلح لتفسير الخطاب المتبادل بين رئيس مجلس السيادة ونائبه، والأجدر البحث عن أسباب أخرى، غالبًا ذات بُعد سياسي أو ربما شخصي.
إرم نيوز