مبادرة مصرية تحت ” الطربيزة” .. رسوم فرعونية على غلاف الاتفاق الإطاري!!
* لماذا تتحفّظ القاهرة عن تأييد نائب رئيس المجلس الانقلابي (حميدتي)..؟
* زيارة كامل حملت نصائح بتوسيع دائرة القوى المدنية التي يمكن أن ينسق معها البرهان، لضمان تحقيق جملة من الأهداف
منذ أن سقط نظام البشير في أبريل من العام 2019، لم تغادر القاهرة محطة الانشغال الذهني بمستقبل الدولة السودانية على ضوء رغبة السودانيين الثورية في تغيير أوضاعهم مرة واحدة وللأبد، وظلت القاهرة تطل في المشهد السوداني بصورة راتبة خلال المراحل المختلفة التي مر بها التغيير في السودان، وتحاول القاهرة أن يكون لها دوراً فاعلاً في ترسيم المشهد السوداني، في وقت تزداد فيه مخاوف القاهرة كلما أدركت أن السودان بات مسرحاً لصراع المصالح والأحلاف الدولية والاقليمية حول تحديد وجهة الدولة السودانية الجديدة، وبالطبع تنطلق مصر من فرضية وجود جذور عميقة لعلاقات تاريخية بين البلدين، جعلت كثير من الهموم المتعلقة بالاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي، بمثابة أرضية مشتركة بين البلدين، وتصلح لبناء قاعدي متين لعلاقات مشتركة تقوم على ضرورة ربط الاستقرار الشامل في كلا البلدين بأهمية التنسيق المشترك بينهما. الا ان كثير من قطاعات الشعب السوداني باتت توجه أصابع النقد والاعتراض على ما تسميه التدخل المصري في الشأن السوداني دون الأخذ بالاعتبار لرؤية شعب السودان وقواه الحية في رسم خياراتهم الخاصة في تحديد وجهة ومستقبل دولتهم الجديدة.
الاتفاق الإطاري
بعد وقوع انقلاب الـ25 من أكتوبر، دخلت الدولة السودانية في أزمة بالغة التعقيد بسبب سيطرة المؤسسة العسكرية على مقاليد الحكم بقوة السلاح. ولم تكن الغالبية العظمى من شعب السودان تتوقع تلك النهاية السريعة للحكومة الانتقالية التي تمخضت عن اتفاق دستوري بين قوى الثورة السودانية والمؤسسة العسكرية أعقاب انتفاضة شعبية شهد بها العالم أجمع، وسقط لأجلها مئات الشهداء في السودان. وكانت كثير من التسريبات الصحفية تشير إلى أن انقلاب 25 أكتوبر لم يكن ممكناً لولا وجود تبريكات مستترة من قبل القاهرة قبيل وقوع الانقلاب فعلياً. وكانت تقارير صحافية كثيرة داخل السودان ظلت تشير إلى تمتع قائد الانقلاب عبد الفتاح البرهان بعلاقات راسخة مع الحكومة المصرية بالمقارنة مع نائبه قائد قوات الدعم السريع، حميدتي، الذي تتحفظ على تأييده القاهرة – وفقاً لذات التقارير الصحفية المتناثرة في السودان. وعندما انتظم الحراك الجماهيري في السودان رفضاً للانقلاب، مع ارتفاع محلوظ لموجة العنف الحكومي في مواجهة المتظاهرين، وفي ظل اتساع الرقعة الدولية الرافضة للانقلاب، جاء الدور المصري متسربلاً عباءة الوسيط الموثوق لرأب الصدع بين الفرقاء السودانيين املاً في إنهاء الأزمة على نحو سلمي. ولكن كانت حظوظ الآلية الثلاثية والرباعية هي الاقوى والأكثر اختراقاً، حيث توصلت الأطراف المتصارعة في السودان إلى صيغة تفاهم أولية عرفت بالاتفاق الإطاري، وهي الخطوة التي وجدت حظوظها القوية من دعم مجلس الأمن الدولي والامم المتحدة والاتحاد الأوروبي والترويكا، فضلاً عن دعم الإمارات العربية والسعودية وكثير من الدول الأفريقية والاسيوية. من جانبها أعلنت مصر نفسها ترحيبها بالاتفاق الإطاري وشجعت الأطراف الموقعة على المُضي قدماً في اكماله، لكن كثير من المستجدات الخاصة بعدم اتفاق عدد كبير من القوى السياسية والمجتمعية حول الاتفاق، ومما دفع القاهرة للظهور مجددا في المشهد السوداني ربما لاحداث مقاربة جديدة حسبما يقول مراقبون.
زيارة عباس كامل
بالطبع – ووفقاً لأحاديث خبراء شؤون وادي النيل المكرورة – يظل الشأن السوداني الداخلي والمتصل بقضايا الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني، هو عنصراً مهماً في أجندة المخابرات المصرية ولا يمكن اغفاله أو تركه بلا رقابة لتأثيرات الدول الأخرى، سواء في المحيط الدولي أو الأفريقي أو العربي. ويأتي الاهتمام المصري بالأزمة السودانية الراهنة، منطلقاً من فرضية ضرورة تأثير القاهرة المباشر وغير المباشر في رسم مستقبل السيناريوهات المعروضة حالياً كخيارات ومسارات محتملة للخروج من الأزمة الحالية. وبعد توقيع الاتفاق الإطاري كأقوى محاولة جادة حالياً لحل الأزمة، ووجدت قبولاً وتأييداً مباشراً من الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، فضلاً عن إسناد مباشر من أهم دول العالم والمنطقة العربية، كالولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات، وجدت القاهرة نفسها، في مأزق تاريخي إن لم تدخل في خط العملية السياسية الجارية حالياً في السودان، وعملت على ترويضها وفقاً لدرايتها بمصالحها الاستراتيجية في السودان. وكان غير خفياً اهتمام القاهرة بضرورة وجود مؤسسة الجيش السوداني طرفاً اصيلاً في معادلة الحكم في السودان، وذلك نتيجة لايمان القاهرة الرسمية بأهمية الجيوش الوطنية ونفوذها واستقلال قراراتها في كامل المنطقة العربية والافريقية، وقد عبر الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، عن ذلك رسمياً خلال قمة جدة الأخيرة، حينما أكد حرص مصر على تعزيز علاقاتها مع مؤسسات الجيوش الوطنية في المنطقة، ورفضها التام لظاهرة المليشيات والجيوش الموازية، فضلاً عن أن مصر تضع قضية سد النهضة وامنها المائي في مقدمة اهتماماتها الاستراتيجية وتعتبرها قضية وجودية بالنسبة لها، وهو الأمر الذي يجعل القاهرة تسعى لربط هذا المصير الوجودي بمستقبل علاقة تعاون استراتيجي مشترك مع السودان.
وبما أن السودان يقف الان في مفترق طرق بالنسبة لاختيار حكومة مدنية جديدة تكون أولى مهامها رسم مستقبل الدولة السودانية وإعادة ترتيب أوراق مصالحها وعلاقاتها الدولية والاقليمية، فلن تستطيع القاهرة المكوث بعيداً عن تخليق هذه المعادلة والتي من المفترض أن تتمخض منها الحكومة السودانية الجديدة القائمة على مرتكزات ثورية غرستها ثورة ديسمبر المجيدة بعد رحلة عصيبة من الكفاح الثوري والتضحيات الكبيرة. ووفقاً لتقارير صحفية، جاءت زيارة مدير المخابرات المصرية اللواء عباس كامل للخرطوم، قبل نحو اسبوع ، في مسعى جديد نحو تحقيق أهداف القاهرة، حيث ألتقى رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان. وشارك في اللقاء مدير المخابرات السوداني الفريق أول أحمد إبراهيم مفضل. وطبقاً لبيان مجلس السيادة السوداني، فإن كامل نقل رسالة شفوية لرئيس مجلس السيادة من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، تتعلق بالعلاقات الثنائية وسبل دعمها وتطويرها وترقية التعاون المشترك بين البلدين في كافة المجالات. وذكر البيان أن البرهان أكد أهمية العلاقات السودانية المصرية وضرورة تعزيزها وتمتينها بما يخدم المصالح المشتركة للشعبين. ولم يذكر البيان أي تفاصيل أخرى عن الغرض من الزيارة. وحملت زيارة كامل، هذه المرة، وفقاً لمعلومات حصلت عليها “العربي الجديد”، ما يمكن أن يدخل في باب “النصائح”، بتوسيع دائرة القوى المدنية التي يمكن أن ينسق معها البرهان، لضمان تحقيق جملة من الأهداف، ربما يكون في مقدمتها عدم السماح للمعسكر المناوئ للبرهان وفريقه بأن يكون هو الممثل الوحيد أو المسيطر على القوى المدنية، في ظل تزويد القاهرة للخرطوم بتقارير وتقدير موقف يحذر من اعتماد مكون مدني بعينه، يلقى قبولاً إقليمياً ودولياً، يسمح له بأن يبدو ممثلاً مقبولاً للقوى المدنية في السودان، في حال وجود خطة دولية متفق عليها لحل الأزمة السودانية المعقدة.
كما حملت الزيارة “نصيحة” أخرى بتجنب الإسراع في اتخاذ البرهان، ومعه المكون العسكري المؤيد له، خطوات سريعة قد تفضي برغبتهم أو بتسارع الأحداث لانسحابهم من المشهد السياسي بشكل كامل، ولو حتى من باب الشكل، لأن ذلك من شأنه، وفقاً لتقديرات مصرية، أن يجعل السودان مسرحاً لمزيد من الدخول في أزمات أكثر عمقاً، وبما قد يسمح بتدخلات أطراف وقوى إقليمية ودولية لا تراعي المصالح المصرية.و قالت ( العربي الجديد) أن الدوائر المصرية المعنية بالملف السوداني ترغب في دعم وتقوية ائتلاف “الحرية والتغيير – الكتلة الديمقراطية”، مضافاً إليها بعض القوى والشخصيات السياسية التي تتوافق مع مصالح القاهرة، علماً أن العاصمة المصرية وعلى مدار الشهرين الأخيرين من العام الماضي، شهدت اجتماعات متتالية مع هذه الشخصيات، بهدف التنسيق لتشكيل مكون سياسي مدني سوداني، يكون قادراً على التأثير في الشارع السوداني وفي الوقت نفسه تملك القاهرة نفوذاً عليه يمكنها من أداء دورها، علاوة على دعم موقف البرهان. ومن بين تلك الشخصيات محمد عثمان الميرغني، مرشد الطريقة الختمية الصوفية، ورئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي، أحد أكبر الأحزاب السودانية التي شاركت في حكومة الرئيس المعزول عمر البشير حتى سقوطها في العام 2019، ومحمد طاهر أيلا آخر رئيس وزراء للبشير قبل سقوطه. كما تُجرى ترتيبات لتفعيل دور صلاح قوش رئيس جهاز الأمن السوداني السابق، المقيم في مصر، والذي سبق أن التقى الميرغني في القاهرة بشكل غير معلن منذ أكثر من شهرين. وكذلك تقول تقارير صحفية نقلاً عن مصادر خاصة، إن الزيارة تضمنت أيضاً الحديث عن خطوات مصرية تسعى القاهرة من خلالها لممارسة ضغوط على إثيوبيا، من أجل العودة إلى طاولة المفاوضات حول قضية سد النهضة، خصوصاً مع الإعلان الإثيوبي عن الدخول في مرحلة الملء الرابع للسد، من دون الاكتراث بالشكوى المصرية المتكررة بالتأثيرات الخطيرة للخطوات الإثيوبية على مخزون المياه، بما يهدد بصورة حقيقية حياة الملايين من المصريين. وأضافت تلك التقارير أن مصر تحاول تأمين موقف مشترك ثابت مع السودان، من أجل ضمان عدم حدوث اختراق إثيوبي يهدد هذا التنسيق ويزيد من ضعف الموقفين المصري والسوداني في مواجهة التعنت الإثيوبي.
لقاء السفير المصري
لم يمضِ وقت طويل على زيارة مدير المخابرات المصرية، عباس كامل، للخرطوم، ولم يتم افصاح رسمي على وسائل الإعلام السودانية عن مضمون الزيارة فيما يتعلق بوجود مبادرة مصرية جديدة غير الاتفاق الإطاري، حتى جاءت الاخبار تتحدث عن لقاء جديد جمع البرهان و السفير المصري، حيث طرح سفير مصر بالخرطوم، هاني صلاح، الثلاثاء، على رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني عبد الفتاح البرهان مبادرة مصرية للتوصل إلى “تسوية سياسية سريعة” في السودان. جاء ذلك خلال لقاء جمعهما بالخرطوم، وفق ما أعلنه السفير المصري في تصريح متلفز عقب اللقاء، بحسب بيان ومقطع فيديو نشره مجلس السيادة عبر صفحته على فيسبوك دون تعقيب مصري. وقال صلاح: ” تحدثنا (مع البرهان) عن المبادرة المصرية لإيجاد والتوصل لتسوية السياسية سريعة على الساحة السياسة السودانية والزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس المخابرات المصري اللواء عباس كامل للخرطوم في 2 يناير الجاري”. وهذا أول إعلان مصري عن زيارة اللواء عباس كامل والتقى خلالها البرهان و”نقل رسالة شفوية من الرئيس المصري عبد الفتاح بشأن العلاقات الثنائية”، وفق بيان من إعلام مجلس السيادة آنذاك. وأضاف سفير مصر في تصريحه المتلفز قائلا: “استعرضت عناصر المبادرة (لم يكشف تفاصيلها) وتم الاتفاق مع رئيس مجلس السيادة على توضيح تلك العناصر بشكل أكبر وبصورة فاعلة لمختلف الدوائر الرسمية والإعلامية والشعبية بالسودان”. ولفت إلى أن “المبادرة المصرية تأتي في ظل دور مصري معتاد يهدف للحفاظ المصالح السودانية ووحدة واستقرار السودان، وتسهيل كل ما من شأنه الوصول لحوار سوداني سوداني يؤدي في النهاية لتسوية حقيقة ودائمة وشاملة”.
عبد الناصر الحاج
صحيفة الجريدة