مقالات متنوعة

عادل عسوم يكتب.. العُرِي ولباسُ التقوى

العُرِيُ منبوذٌ في كل الأديان منذ أن غوى الشيطانُ أبانا آدم وأمنا حواء وأنزل الله تعالى في ذلك قرآنا يُتلى:
{يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} الاعراف 27
وظل الشيطان يسعى لنزع لباس بني آدم منذ الأزل ليريهم سوءاتهم، قال لي جدي محمد الحسن حاجنور رحمه الله -وهو الذي اعتاد معالجة الممسوسين-
:(إن الشيطان لا يمس إبن آدم إلا إذا وجده عاريا
ان كشف العورات إهدار للآدمية
وإخلال بمستوى البشرية، ورفع لحفظ الله ومعيته لابن آدم، وبالتالي اتاحة وتيسير للشيطان لاغوائه وهو الذي قال: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} الأعراف.
لذلك نجد الذين تركن أنفسهم لانتفاء الحشمة وحب العري أقرب فكرا ووجدانا للشيطان، ولن تجد شيوعيا أو علمانيا محبا للحشمة، بل إنهم للعرى أحب وأهوى، والفكر والمنهج له تأثيره على الوجدان والذائقة، والله ماجعل لامرء من قلبين في جوفه.
يقول الله تعالى:
{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} 26 الأعراف
لكم سألت نفسي ماذا كانا عليهما السلام يلبسان قبل أن يغويهما ابليس ويأكلا من الشجرة (نبتا كانت، أم غير ذلك مما قيل عن كنهها)؟!
ثم اني تساءلت ذات التساؤل عن حال بني آدم عندما يقومون لرب العالمين، وقد ورد في الصحيحين أن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(يُحْشَرُ الناسُ يومَ القيامةِ حفاةً عراة غُرْلاً).
ياترى هل ل(لباس التقوى) علاقة بكل ذلك؟!
قال عكرمة رضي الله عنه، لباس التقوى هو مايلبسه المتّقون يوم القيامة، وقيل بأن لباس التقوى هو الإيمان، وقيل هو العمل الصالح، وقيل غير ذلك.
وإذا بي انقّب فأجد هذه القصة التي احسب أن لها وصل بأصل الأمر:
قيل بأن فرعون عندما خرج يوما في قومه، إذا بصبي غر أشار إليه ضاحكا وقال:
انظروا للملك العاري!.
فرعون بحبه للعري لأقرب إلى الشيطان، مثله في ذلك مثل كل الذين يركنون إلى فكر ومنهج مباين لمنهج الله، وقد خرج عاريا إلى رعيته وهم الذين اعتاد استخفافهم واعتادوا طاعته.
والمشركون من قريش كانوا يطوفون بالبيت الحرام عُراة، وعندما قدم المسلمون إلى مكة المكرمة فاتحين وطافوا بالبيت (بلباس الإحرام) امتثالاً لأمر الله عز وجل في قوله:
{يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} 31 الأعراف.
ماكان من كفار قريش إلاّ استنكار ذلك، فقد وقر في نفوسهم الطواف عراة لتلبيس الشيطان الذي اوعز لهم بتبرير فج وخاطئ وهو: (لن نعبد الله بملابس عصيناه بها)!.
ولعلي بين يدي ذلك أحكي هذه القصة التي عايشتها خلال طفولتي في منطقة (قوقريال) في دولة جنوب السودان، حيث كان الوالد رحمه الله يعمل (مساعدا طبيا)، وكان في معيته مُمَرِّضٌ من أبناء الدينكا إسمه اوقستينو، بالرغم من كونه متعلم ومثقف ويتحدث عربي جوبا وكذلك الإنجليزية بطلاقة؛ إلا إننا عندما زرناه في قريته في أطراف الغابة وجدناه وكل أهله عراة كما ولدتهم أمهاتهم، فسأله الوالد عن ذلك فأجابه بأن الأصل في إبن آدم العري!، ولم تُجْدِ جهود الوالد رحمه الله في إقناع اوقستينو وأهله بأن المتسبب في كل ذلك هو الشيطان.
ثم اني قرأت بأن عدد المجانين في ألمانيا الشرقية كان ملفتا لكل من يزور تلك الدولة قبل ان يهدم جدار برلين وتصبح ألمانيا دولة واحدة، وفي عام 1926 أسس ألفريد كوخ مدرسة العري في برلين للحث على ممارسة التعري المختلط بين الجنسين اعتقادا بأن العري في الأماكن المفتوحة يساعد على تحقيق التناغم مع الطبيعة ويحقق فوائد صحية!، وكان الألمان في السنوات المبكرة لتأسيس ألمانيا الشرقية الديمقراطية يستحمون عراة خلسة في غفلة من رجال الشرطة، وبعد أن تولى (الشيوعي) إيريش هونكر السلطة في عام 1971 أصبحت ثقافة الجسد العاري مباحة رسميا.
رحم الله جدي فقد كان يأمرنا -ونحن صبية- أن نستر عوراتنا، وكان لايتهاون في ذلك، ويأمرنا باحكام إغلاق باب الغرفة عندما نبدل ملابسنا، وكذلك باب الحمّام/المرحاض فلاندعه مواربا، وإذا بي أجد ذلك في ثنايا السنّة الشريفة لاحقا، إذ قال نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:
(أجيفوا الأبواب، واذكروا اسم الله عليها، فإن الشيطان لا يفتح بابا أجيف وذكر اسم الله عليه).
رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وصححه ابن حبان والحاكم والألباني.
على المسلم النأى بنفسه عن العُرِي ما أستطاع الى ذلك سبيلا كي لايدع للشيطان مدخلا،
وقد حكي لي الخال أحمد محجوب حاجنور رحمه عن ساحر نايجيري أعلن توبته عن السحر، التقاه عندما كان محاضرا في جامعة كانو النايجيرية، بأن الجِنّي/ الشيطان إن قَبِلَ بالسُّخرة لابن آدم؛ فإنه يشترط عليه التعرى أمامه كلما التقاه!.
وأختم بالحديث عن تعر آخر يخفى على الناس:
التعري ليس بالضرورة ان يكون الملموس الذي نعلمه، إنّما يكون (محسوسا) أيضا. فالإثم له ظاهره وباطنه، يقول الله جل في علاه:
{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} الأنعام 120
فقد يسترسل المرء منّا بخياله ويتذكر مشهدَ عُريٍ، أو تعرض له معصيةٍ اقترفها تحيدُ به عن الاستغراق في الطاعة والإخبات لله خلال صلاته أو حين استغراقه في تلاوة القرآن، أو حتى في ثنايا التفكُّر في ملكوت الله عندما يكون خاليا. هذا التخيل (العاري) ينأى بالوجدان عن الارتقاء في مدارج العروج الروحي إلى الله، قال نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي:
(قل تعالى: … وما تقرب لي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ومازال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها وقدمه التي يمشي بها وإذا سألني لأعطينه وإذا استغفرني لأغفرن له وإذا استعاذني أعذته).
فالأمر يحتاج إلى خشوع، وإلى قلب حاضر حين الصلاة واداء تلك النوافل، صدعا بقول الله جل في علاه:
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} المؤمنون 2،1
لنتذكّر الصور الوضيئة في ثنايا الذكريات التي تعزّز فينا التقوى، والتي تعلي من شأن الإيمان في النفس كلما اسلمنا انفسنا لله، فذاك يؤدي تلقائيا إلى مسح كل ذكرى فيها عري ملموس أو محسوس في وجداننا، مما يزيد من وضاءة وجداننا وطهر خواطرنا.
وهنا حري بنا أن نقف هنيهة بين يدي انبياء الله ورسله عليهم السلام وعلى نبينا افضل الصلاة والسلام، وقد عُهِدَ عنهم جميعهم أنهم ركنوا إلى (خلوات) قبيل أن يُبعثوا، أمضوا خلالها من الوقت الكثير، تفكّرا في ملكوت الله، وترويضا للخيال في مدارج العروج الروحي إلى الله في عليائه، وكذلك كان حال نبينا صلى الله عليه وسلم في غار حراء، إلى جاءه جبرائل عليه السلام.
ولعل أمر الخلوة انسرب -حتى- إلى ثقافات لاوصل لها بدين سماوي مثل رياضة اليوجا لدى البوذيين وسواهم.
اللهم ألبسنا لباس التقوى، جسدا وفكرا وروحا، وكذلك يوم نقوم إليك يوم البعث والنشور، إنك ياربي وليُّ ذلك والقادر عليه.

صحيفة الانتباهة