التضخم .. المنظور العلمي وواقع الحال!!
بقلم/ التاج بشير الجعفري
كشف البنك المركزي في معرض تقديمه لمحاور السياسية النقدية للسنة المالية الجديدة عن عزمه الوصول بنسب التضخم في البلاد لمستوى 25% بنهاية العام الحالي 2023 بحسب الخبر الذي طالعناه في (الانتباهة) قبل يومين.
فما هو مغزى هذا التصريح؟ وهل يجب الإعتداد به؟ رغم أننا لا ندري لماذا (قطع) البنك المركزي هذه النسبة تحديداً وليس أقل منها مثلاً؛ حيث من المعروف أن معدلات التضخم في مستوياتها العادية تكون “أحادية الرقم” one-digit وتلك هي المستويات المقبولة التي تسعى لها كافة الدول.
على العموم مسألة إختيار (المركزي) لهذه النسبة بعينها ليست ذات أهمية لمناقشتها لأنني لا أعتقد أن (المركزي) نفسه لديه تفسير لتحديد هذه “النسبة”؛ ولكن دعونا نناقش المغزى وراء هذا الأمر وما المطلوب لكي يصبح ما يُبشر به (المركزي) ذا جدوى للناس ويُساهم في رفع المعاناة عنهم.
يجب إبتداء التأكيد على أن التضخم هو نتيجة لخلل أو مشكلة في الإقتصاد حيث يرتبط إرتباطاً مباشراً بقِلَة الإنتاج وزيادة عرض النقود وإعتماد البلاد على توفير معظم إحتياجاتها من السلع والبضائع عن طريق الإستيراد؛ وهو ما يُولد الطلب المتزايد على العملة الأجنبية ويؤدي بالمقابل لتراجع العملة المحلية وينعكس كل ذلك على إرتفاع الأسعار وهو ما يُعرف بالتضخم في الإقتصاد.
إذاً عملية الإنتاج ووفرة السلع والخدمات وتناسب حجم النقود مع معدلات النمو في الاقتصاد تُعتبر من الآليات أو العوامل الأساسية للتحكم في نسب التضخم في الحدود المقبولة.
أيضاً من العوامل المؤثرة للتحكم في معدلات التضخم، توفر مصادر للعملة الأجنبية من خلال الصادرات للخارج لسد حاجة الإستيراد.
فإذا أمعنا النظر في ما ذكرناه حول أهمية الإنتاج والصادرات ودورهما في التحكم في معدلات التضخم نجد أن عملية الإنتاج والتنمية في كافة القطاعات تكاد تكون متوقفة بإستثناء قطاع الزراعة الذي شهد أيضاً تراجعاً كبيراً في الموسم الحالي بسبب تقلص المساحات المزروعة نتيجة لخسائر الموسم الماضي والإرتفاع المضطرد في التكلفة؛ بالإضافة للصعوبات الكبيرة وإحتمالية الفشل التي تُهدد الموسم الشتوي في القطاع المروي.
أما حركة الصادرات فهي أيضاً في تراجع، حيث أظهرت بيانات العرض الاقتصادي والمالي من البنك المركزي للربع الثالث من عام 2022 إرتفاع عجز الميزان التجاري (الفرق بين الصادرات والواردات) ليصل 3.5 مليار دولار للفترة من يناير – سبتمبر 2022م وهو الأعلى حتى الآن؛ إذ بلغت الصادرات 3.688 مليار دولار بينما بلغت الواردات لنفس الفترة 7.196 مليار دولار أمريكي.
ومع عدم دخول أي إستثمارات خارجية للبلاد نتيجة لحالة عدم الإستقرار السياسي والإقتصادي الراهنة؛ فإنه يحق لنا أن نتساءل عن الأسباب والمبررات الحقيقية وراء الإنخفاض (المزعوم) في معدل التضخم ومدى دقة وصحة هذه النسب وتفسيراتها في ظل ثبات مستوى الأسعار.
هذا مع العلم أن الإقتصاد
السوداني لا يخضع، في كثير من الأحيان، لقوانين العرض والطلب المعروفة وذلك لعدم وجود تنمية حقيقية وأيضاً إعتماد الإقتصاد في حركته على الأشغال الهامشية غير المنتجة وإنتشار ظاهرة التهريب والفساد وتبديد الموارد؛ يُضاف لكل ذلك الإختلالات الهيكلية المُزمنة والإشكالات المتعددة في جسم الإقتصاد وما تُحدثه من آثار سلبية؛ كذلك تساهم التكلفة المرتفعة في القطاعات المختلفة الزراعية والصناعية والخدمية وغيرها في إزدياد معدل التضخم والتي يلعب فيها تدهور سعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية دور مباشر.
ورغم كل ذلك فقد ظللنا نتابع التقارير التي تؤكد الإنخفاض في معدلات التضخم حسب البيانات الصادرة من الجهاز المركزي للإحصاء والتي بلغت 88.8% في شهر نوفمبر 2022 مقارنة ب 102.6% في شهر أكتوبر الذي سبقه؛ إلا أن هذا الإنخفاض في معدل التضخم لم ينعكس في إنخفاض الأسعار، وهو ما يُعزز فرضية أن السلع المضمنة في سلة مؤشر أسعار المستهلكين
(Consumer Price Index)
لا تمثل السلع الأساسية التي يستخدمها غالبية المستهلكين، الأمر الذي يتطلب مراجعتها وفقاً لتغيرات حالة الطلب الحقيقي من جانب المستهلكين.
وبالعودة لتصريح البنك المركزي وعزمه لخفض معدل التضخم خلال العام الحالي؛ يجب أن نشير إلى أن الجهد والعمل الحقيقي لخفض مُعدل التضخم وكبح جماحه ينبغي أن يكون من خلال إصلاحات إقتصادية حقيقية وشاملة، تبدأ بالتركيز على التنمية كأولوية قصوى لزيادة الإنتاج وكذلك إلغاء الرسوم والجبايات على المُنتجين؛ كما يتطلب الأمر تشجيع الصادرات وفتح أسواق خارجية للمنتجات التي يُمكن أن تُنافس مع مثيلاتها من منتجات الدول الأخرى.
أيضاً من المهم العمل على مكافحة التهريب وملاحقة المقصرين والمتلاعبين في توريد حصيلة الصادر من خلال إستخدام أنظمة تقنية (ذكية) يكون تدخل العنصر البشري فيها محدوداً للغاية، منعاً للتلاعب والفساد.
إن محاولة البنك المركزي التأثير على معدلات التضخم من خلال السياسات المالية والنقدية فقط؛ لن تكون ذات جدوى إلا إذا جاءت ضمن حزمة إصلاحية شاملة وهو ما يجب التركيز عليه بدلاً من هذه الحلول المجتزأة.
أما ما يتم إعلانه من إنخفاض في معدل التضخم الشهري فيظل حبراً على ورق إذا لم يرتبط بإصلاحات فعلية ومتكاملة تساهم في إنخفاض الأسعار بشكل حقيقي؛ وأي شيء عدا ذلك لن يعدو أن يكون (بيانات نظرية) لأجل التطمين فقط، لكنها لا تمت للواقع بصلة، ولا تنعكس إيجاباً على حياة الناس، ولا تعبر عن الوضع الإقتصادي الحقيقي.🔹
eltag.elgafari@gmail.com
صحيفة الانتباهة