“التنمر” سلاح الخصوم في الصراع السياسي السوداني
"ما يحدث الآن لا يتم بمعزل عن ثقافة مجتمعية آخذة في التنامي"
دخل مصطلح التنمر إلى أدبيات علم الاجتماع السياسي وتطور من ظاهرة اجتماعية إلى سياسية لارتباطه الوثيق بطبيعة الصراع بين السياسيين المتنافسين على السلطة والمواقع الحكومية في الدولة. ولأن هذا الصراع قديم قدم التاريخ منذ الممالك القديمة والإمبراطوريات وأنظمة الحكم السياسية في عصور مختلفة، فإن التنمر كان سائداً في شكله التقليدي من خلال حالات العداء والإيذاء والمؤامرات لإزاحة الخصوم. أما الآن فاتسعت هذه الظاهرة وأصبحت سلاحاً ذا حدين، فمن ناحية يستهدف سلوك ونشاط السياسيين ومؤسساتهم الحزبية ومواقعهم الحكومية، ومن ناحية أخرى يستخدمه رجال السلطة ضد مناوئيهم ومنتقديهم، وأسهم في ذلك التطور التقني وانتشار الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي على نطاق واسع، فأصبح التنمر السيبراني امتداداً للتنمر التقليدي.
قبل الثورة
لم تكن ظاهرة “التنمر السياسي” منتشرة بشكل واسع في السودان قبل ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، ولكن نتيجة لما شهدته البلاد من أحداث كانت فيها شبكات التواصل الاجتماعي هي الوسيلة الأولى لحشد وتنظيم وجدولة المظاهرات وخط سيرها، تحولت في فترة ما بعد الثورة إلى ساحة لإدارة المعارك السياسية عبر أسلحة عدة يأتي في مقدمتها التنمر السياسي. تكثفت هذه الظاهرة وشملت السياسيين في السلطة والأحزاب خارجها و”قوى إعلان الحرية والتغيير”، وكلما زادت انشقاقات هذه الأجسام السياسية، تزداد بالتالي كثافة هذه الظاهرة.
والمتابع للمشهد السياسي السوداني يدرك ما وصلت إليه حالة النقاش السياسي والحوارات ذات العلاقة بالأحداث السياسية في البلاد في فترة ما بعد الثورة وما صحبها من توتر وعنف ينمو بوتيرة متسارعة. بعد إسقاط نظام الرئيس السابق عمر البشير في أبريل (نيسان) 2019، كان التوجه الأساسي هو ضمان اتساع قاعدة المشاركة السياسية ليشمل الأحزاب السياسية والحركات المسلحة المتمردة على النظام السابق، ولكن نسبةً إلى التغييرات السريعة التي لحقت بالفترة الانتقالية فإن الخصومة تجاوزت العملية السياسية إلى التنمر على الأشخاص بالانتقاص من قدراتهم ومكانتهم وأحياناً يشمل ذلك “همزاً ولمزاً” في جذور هذه الشخصيات الاجتماعية وتكويناتها القبلية. فأصبح التنمر أداةً للتصفية السياسية، يستخدَم للفت الانتباه للنيل من الخصوم السياسيين في مسارح نشطة وواسعة هي وسائل التواصل الاجتماعي.
تصور مشوه
لا يخلو التاريخ السوداني من الخصومات السياسية، ولكن ما شكلته سنوات حكم “الإنقاذ” خلال 30 سنة، فاق سياسة الترهيب التي مورست خلال تاريخ السودان في ظل حكوماته الوطنية منذ استقلاله في عام 1956.
ظهور حالات التنمر وهي رأس جبل الجليد الذي تغوص جذوره في تلك الفترة، أسهمت فيه عوامل عدة منها، أولاً، بعد سقوط النظام السابق، بدأت تظهر ترسبات العنف في الحراك السياسي الجديد بعد أن ظلت خامدة بفعل قوة أكبر هي قهر النظام لخصومه وإزالتهم بأذرع السلطة، إذ لم تكن هنالك حاجة للتنمر في وجود وسيلة تقليدية مباشرة وسريعة وفاعلة. ومع زواله، ظهرت الأحزاب والمكونات السياسية الأخرى بعد طول حرمان من السلطة تبحث عن فرصة، كما أن أعضاء “حزب المؤتمر الوطني” الحاكم في عهد البشير، يقودون حملات تنمر ضد المناوئين لهم للذود عما يتخيلون أنها مخصصاتهم في الحكم وستعود إليهم.
ثانياً، مع تعقيد الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية في المناخ المجتمعي المتوتر حالياً، يميل الأفراد بصفاتهم الشخصية أو الرسمية إلى التعصب في الرأي كمحاولات للتنفيس عن الغضب. وخلق هذا الوضع، بدون توجيه من سلطة عليا عدواً مفترضاً هو المسؤول عما آلت إليه أحوال البلاد.
ثالثاً، وفّر التطور التقني حالات من التفاعل السريع تبعاً لانفتاح الناس على بعضها بعضاً وسهولة التواصل في بيئة سياسية محتقنة، لأن التنمر يحدث في أي مكان يكون التفاعل فيه نشطاً بين فئات مختلفة اجتماعياً وقبلياً. ويمكن بسهولة توقع مآلات حوار تكون فيه هذه الفوارق وما يكمن فيها من خلافات دفينة نتيجة صراع سياسي أو اجتماعي، المحرك الأساس للنقاش، فيتحول بحكم الغريزة الدفاعية والعقد النفسية والإحباط المجتمعي إلى ممارسة التنمر على الآخرين، ويساعده تزعزع النسق القيمي الاجتماعي.
رابعاً، عدم وجود قوانين رادعة، إذ إن الانفلات السياسي أدى إلى انفلات أمني ومجتمعي، فغابت وسائل ضبط وتهذيب الخطاب السياسي الذي يصل إلى تصفية الخصم معنوياً. وهو الخط ذاته الذي يسير عليه التنافس السياسي من خلال عدم تقبل الآخر نتيجة لشعور بالعجز عن الممارسة الديمقراطية، وعدم الثقة في السياسيين السودانيين، فكان البديل هو تصور مشوّه لحرية التعبير بالنيل من الخصم السياسي.
مذبح التنمر
حالات عدة شهدت تنمراً سياسياً تنذر بوصول المشهد السياسي السوداني إلى مرحلة بعيدة ومقلقة. وعلى اختلاف التوجهات السياسية يكون التنمر، فلم ينج مجلس السيادة الانتقالي بشقيه العسكري والمدني، فمثلما هنالك فيديوهات متداولة لأغراض السخرية تتناول رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان ونائبه الفريق محمد حمدان دقلو “حميدتي”، هنالك فيديوهات أخرى للشق المدني في “قوى إعلان الحرية والتغيير”. تُنشر هذه الفيديوهات بالتركيز على أخطاء في التعبير أو على اللهجة المحلية للمتحدث، وتدخل من باب السخرية والاستهزاء. وتكون التعليقات هي المذبح الذي يُعلَّق عليه الضحية لأيام، ثم تجد طريقها للنشر بكثافة في الوسائل الأخرى.
من المواقف المشهودة، انتشار فيديو يظهر رئيس حزب “الأمة الإصلاح والتجديد” مبارك الفاضل المهدي لحالات تنمر جسدي عند زيارته ميدان الاعتصام في 12 أبريل (نيسان) 2019، ومثله وزير شؤون مجلس الوزراء السابق، القيادي بحزب المؤتمر السوداني، خالد سلك. وظهر مقطع فيديو له وهو محاصر من قبل الثوار في ذكرى 19 ديسمبر في عام 2021، وسط هتافات مسيئة، وحال بعض الثوار بينه وبين وآخرين في محاولة للاعتداء عليه، حيث تم إجلاؤه إلى أحد المحلات وإغلاق الباب عليه إلى حين تفريق المتظاهرين. وتعرض للتنمر كل من جبريل إبراهيم وزير المالية، ومحمد بشير أبو نمو وزير المعادن، ومبارك أردول المتحدث باسم الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال، مدير الشركة السودانية للموارد المعدنية، ومني أركو مناوي الحاكم العام لولايات دارفور، زعيم حركة تحرير السودان، وغيرهم.
وفي كل هذه الأحوال لم يخرج التنمر عن ثلاثة عناصر مترابطة يُمارس فيها التنمر وهي، المتنمر الذي يصدر عنه سلوك الإيذاء الجسدي أو العاطفي للمضايقة والتخويف والإذلال والتشويه والشتم واللعن. والعنصر الثاني هو الشخص الذي يقع عليه فعل التنمر ويبدو أمام الآخرين إما مقاوماً شرساً أو مترفعاً أو مستسلماً. أما العنصر الثالث فهو المتابعين الذين يتنوع سلوكهم إما بالاعتراض على فعل التنمر أو المشاركة فيه، أو الاستمتاع والتشفي أو المتابعة الصامتة.
عاصفة عنف
على مدى السنوات الثلاث الماضية، شهدنا عاصفة من حالات العنف المبني على الصراع السياسي الذي تغذى بدوره من النزعات الطائفية والقبلية. ولتفسير هذا الوضع يمكن رده إلى ما جاء في التحليل الاجتماعي السياسي في تقسيم العنف إلى أنواع تصب في ظاهرة التنمر السياسي.
النوع الأول هو “العنف الرمزي” المراد به التعويض عن حالة عنف مادي مباشر يمكن أن يقع إذا وجِد الأشخاص فيزيولوجياً في مكان واحد، ولكن عندما يتعذر ذلك يُستعاض عنه بالعنف اللفظي والاتهامات والاستهزاء والسخرية وغيرها من الوسائل التي تشبع بعضاً مما تتطلبه الحالة العدائية وتمد صاحبها بمتعة غريبة.
والنوع الثاني هو “عنف اللغة الاجتماعي”، وهو ما عالجه جان جاك لوسركل الأستاذ في جامعة باريس في كتابه “عنف اللغة” مستشهداً بما قاله سيغموند فرويد في كتابه عن النكات، إن “سرد النكات والمتعة الناتجة عنها وإرخاء العنان لنوع من الفوضوية في معابثة اللغة تخلق من الشخص متعابثاً ومخرباً وطفلاً شقياً، وهي وظيفة أخرى للغة غير الوظائف المعرفية والتواصلية والاستشارية”. ونزولاً عند تحليل لوسركل نجد أن هذه الموجة من التنمر قد بدأت بسرد النكات عن الخصوم السياسيين، وسبقها نشاط محموم عبر فرق فنية تسخر من القبائل والإثنيات المختلفة وتقلد لهجاتها بشكل فكاهي، وبين ثنايا هذه النكات كثير من اللؤم والتقليل من مكانة تكوينات اجتماعية.
أما النوع الثالث فيمكن رده إلى ما جاء في كتاب “عنف البادية” للكاتب السوداني حسن الجزولي، ومع أن الكتاب عن الأيام الثلاثة الأخيرة في حياة السكرتير السياسي للحزب الشيوعي السوداني عبد الخالق محجوب الذي أعدمه الرئيس الأسبق جعفر النميري، لكنه يشير بعمق من خلال العبارة التي صاغها محجوب نفسه “عنف البادية” في وصف هجمة شرسة تعرض لها الحزب الشيوعي عام 1965، ومهاجمة جماعة من طائفة “الأنصار” لدار الحزب الشيوعي وتدمير عضويته معنوياً. يماثل ذلك ما حدث حالياً من انتقال لجماعات الهامش السياسي وزعماء الحركات المسلحة، والتي كانت تدافع عن حقوق أهالي الأقاليم خصوصاً في دارفور وجبال النوبة، إلى سلم الأجهزة التنفيذية في الخرطوم عبر ترضيات سياسية، فوقع عليهم اللوم في فشل الفترة الانتقالية مما أدى إلى التنمر عليهم، بادلوه بتنمر آخر.
منظومة عدوانية
من أبرز نتائج التنمر السياسي هي بروز أشكال من الكراهية والعنف في بيئة سياسية فوضوية مليئة بالأزمات. وفي الوقت الذي تظن فيه تيارات كثيرة أنها تنغمس في النيل من الخصوم محميةً بحرية التعبير، فإن التنمر يُعد من الوسائل الكابحة التي تقوض خطوات التوجه الديمقراطي لبلاد تمر بفترة انتقالية حرجة. فجودة الحكم لا تعتمد فقط على عدم تنمر الوزراء والتنفيذيين في الدولة على غيرهم، وإنما العكس صحيح أيضاً وتثبته حالات التنمر التي زعزعت الثقة بين الأطراف.
ما يحدث الآن لا يتم بمعزل عن ثقافة مجتمعية آخذة في التنامي، وإن كان الخطاب السياسي في أصله يعاني أزمات في الصياغة والتلقي، فإن البديل كان في انعقاد الأمل على تشكيل ثقافة قبول الآخر وتأثيرها على الفضاء السياسي الواقعي والافتراضي. ربما لن تجدي في هذه الفترة والبلاد على أعتاب تحقيق حكم مدني ديمقراطي، محاولات ترسيخ آليات تحقق الانتقال إلى السلطة المدنية في ظل وجود منظومة تمارس سلطة أخرى عبر إيقاعات الخطاب السياسي المليء بالعداوة والرغبة في الانتقام من الخصوم. كما تفرض آلياتها من خلال التنمر المستمر الذي يُفقد النموذج الديمقراطي المأمول قوامه وبنيانه، وقبل ذلك كله قيمه ومبادئه.
مني عبد الفتاح
إندبندنت عربية