مقالات متنوعة

ليه بنهرب من مصيرنا؟!

سيف الدسوقي رحمه الله شاعر ملهم تتساوق الكلمات منه عنده كما العرائس، عليهن قرمصيص محبة وعلى الرأس منهن ضريرة محنة، تضوع ينفحن بالشذى وتضوع في الأرجاء رائحة الحنة، ويأتلق المحيا منهن بابتسامة ترد الروح…
ابتدرت قراءاتي لاشعاره التي نظمها بالفصحى فكنت ولم ازل أسير بديعته:
عد بي الى النيل لا تسأل عن التعب
الشوق طي ضلوعي ليس باللعب
لي في الديار ديار كلما طرفت عيني
يرف ضياها في دجى هدبي
وذكريات احبائي اذا خطرت
احس بالموج فوق البحر يلعب بي
شيخ كأن وقار الكون لحيته
واخرون دماهم كونت نسبي
واصدقاء عيون فضلهم مدد
ان حدثوك حسبت الصوت صوت نبي
امي التي وهبت حرفي تالقه
تجئ رحمتها من منبع خصب
وان تغيب في درب الحياة ابي
قامت الى عبئها ايضا بعبء ابي
والناس في وطني شوق يهدهدهم
كما يهز نسيم قامة القصب
والجار يعشق للجيران من سبب
وقد يحبهم جدا بلا سبب
الناس اروع ما فيهم بساطتهم
لكن معدنهم اغلى من الذهب
عد بي الى النيل لا تسأل عن التعب
قلبي يحن حنين الاينق النجب
من كان يحمل يمثلي حب موطنه
يأبى الغياب ولو في الانجم الشهب
ثارت جراحي نيرانا يؤججها
عدو الرياح على قلبي وفي عصبي
كنا سماء تبث الخير منهمرا على البلاد
كقطر الديمة السكب
وكان موطننا عزا ومفتخرا
ما هن في عمره يوما لمغتصب
وقدوة لشعوب لا تماثلنا
في الحلم والعلم والاخلاق والادب
والكنز كان هو الانسان مكتملا
في محفل الجد لم يهرب ولم يغب
والنيل ان فاض اروتنا جداوله
وان تراجع جاد النخل بالرطب
والحب اروع ما في الكون نغزله
خيطا من الشمس او قطرا من السحب
والحنبك الفذ في الاغصان لمعته
ازرت بكل صنوف الكرم والعنب
والناس قااتهم طالت اذا هتفوا
بالشمس جيئي تعالي هاهنا اقتربي
جاءت على خجل حيرى تسائلهم
من ذا على النيل يا احباب يهتف بي
ماذا اصاب ضمير الناس في زمن
صعب كان به داء من الكلب
هذا زمان غريب كيف نعرفه
او كيف يعرفنا من زحمة الحقب
ارجع الي شباب العمر مؤتزرا
بالحب والوصل لا بالوعد في الكتب
وامسح عن القلب ما يلقاه من عنت
واغسل عن الوجه لون الحزن والغضب
فقد اعود كما قد كنت من زمن
فخر الشباب ورب الفن والادب.
لعلي أقول بثقة ويقين بأنها من أفضل مانظم من الشعر العربي منذ عهد شوقي.
وإذا بي أجده بذات الإبداع والادهاش والإمتاع في أشعاره المغناة ومنها المصير التي بين يدينا، ومنها كذلك رائعة الجابري (مافي حتى رسالة واحدة) والتي قيل بأنه نظمها في روح والدته رحمهما الله، وكذلك بديعة البلابل (مشوار):
بتعرف إنى من اجلك
مشيت مشوار سنين وسنين
مشيت فى الليل الى الغربة
على الكلمات ودمع العين
وعشتك لما فارقتك
حروف تتغنى بيك حنين
بتعرف أنت ما بتعرف
نحنا بحبكم هايمين
ودارت دورة الأيام
ونحن مع الزمن أغراب
متين تتحقق اللقيا
ومتين يتقابلوا الأحباب
شربنا دموعنا ما رْوينا
حملنا الشوق ملانا عذاب
وقلنا نجرب الصحرا
جنينا تعبنا كلو سراب
قليل فى حقك المشوار
بدور من أجلك أمشى كمان
وتحفى رجولى تقطر دم
وأصبح فى الطريق عطشان
محبة كتيرة فى قلبى
ودعوة تمجد الإنسان
وإنت نموذجى الطيب
نموذج يلهم الفنان.
وسواها كُثًر يحملن الكثير من المضامين الشعرية الجميلة…
المصير احسبها يقينا من الأغنيات اللاتي اضفن الكثير للراحل إبراهيم عوض، فقد أجاد أداءها بعد أن ألبسها (ود الحاوي) عبداللطيف خضر لحنا قشيبا يشنف الآذان ويأخذ بالألباب ويشكل الوجدان، ويضفي إلى الذائقة حلاوة وطلاوة…
كلمات المصير تخاطب جيلا يقف على هضبة العمر، تلوح المشاهد من خلف ظهره بشخوصها وشواهدها من بعيد، وأمام ناظريه سني عمر لا يعلم عِدادها، فيعقد العزم بكل ما بقي فيه من عنفوان ليعتصر من قادم أيامه وسنيه -بل ساعاته وثوانيه- كل لحظة امتاعٍ وكل هدأة عمر، مستصحبا كما من الذكريات الحميمات اللائي كُنّ ولم يزلن لسني العمر بمثابة الربيع من الزمان…
يالبهاء صوت ابراهيم عوض عندما يتسلل إلى النفس من خلال مفاصل نُعّسِ، تسوقك الأغنية سوقا عندما يشدو ليقول:
ليه بنهرب من مصيرنا
ونقضى ايامنا فْ عذاب
ليه تقول لى انتهينا
ونحن فى عز الشباب
نحن فى الأيام بقينا
قصة ما بتعرف نهاية
ابتدت ريدة ومحبة
واصبحت فى ذاتها غاية
كنت تمنحنى السعادة ولي تتفجر عطايا
ولما أغرق فى دموعى تبكى من قلبك معايا
كنا فى ماضينا قوة
قوة تتحدى الصعاب
نقطع الليل المخيم ونمشى فى القفر اليباب
كنا للناس رمز طيبة وكنا عنوان للشباب
وهسى تايهين لينا مدة نجرى من خلف السراب
تانى ما تقول إنتهينا
تنهى جيل ينظر إلينا
بانى أمالو وطموحو ومعتمد أبداً علينا
نحن قلب الدنيا دية ونحن عز الدنيا بينا
تانى ما تقول إنتهينا
نحن يا دوب إبتدينا
يااااه
بالله عليكم توقفوا لحظات بين يدي هذا البيت:
كنت تمنحني السعادة
ولَيَّ تتفجر عطايا !!!
يا لمنح السعادة ويا للتفجر بالعطايا!…
أي محبة هذه؟ وأي نبل وجمال يا أحباب؟!
كيف لا وقد كانا المثال للناس:
كنا للناس رمز طيبة
وكنا عنوان للشباب…
ما ادهشه من توصيف وما أنبله سياق يا أحباب!
لعمري لهذا هو الشعر الغنائي الذي يرقى بوجدان الأجيال، وانها لأزاهير ملونة البتلات، وانها لعراجين الثمار.

عادل عسوم
صحيفة الانتباهة