رأي ومقالات

عثمان ميرغني يكتب.. ممنوع الوقوف بين “القمتين”

يحتاج السودان إلى الصين في تشييد البنى التحتية خاصة المتعلقة بالنقل والطاقة، وصادرات المحاصيل والسلع الغذائية، بينما تستطيع الولايات المتحدة تطوير القطاع الزراعي والطبي بتكنولوجيا متقدمة
صورة تبدو متناقضة، الرئيس الأمريكي جو بايدن يرفض دعوة السودان للقمة الأمريكية الأفريقية التي تنعقد بواشنطن في الفترة 13-15 ديسمبر 2022 الحالي، بينما شارك رئيس مجلس السيادة الانتقالي بالسودان الفريق أول عبد الفتاح البرهان في القمة العربية الصينية بالعاصمة السعودية الرياض واختتمت أعمالها أمس الجمعة 10 ديسمبر 2022، فماذا يعني ذلك للسودان من جهة، وأمريكا والصين من جهة أخرى؟

منذ انتصار ثورة ديسمبر في السودان والإطاحة بنظام الإنقاذ في أبريل 2019، أولت الولايات المتحدة الأمريكية اهتماما كبيرا بالسودان وكانت عرَّاب إعادته للمجتمع الدولي بعد عزلة استمرت لأكثر من عقدين، وسارعت بإخراج السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب لتفتح الباب أمام إعفائه من الديون وإعادة تعاون المؤسسات المالية الدولية معه، خاصة البنك الدولي.

ودعمت أمريكا السودان سياسيا في المحافل الدولية والإقليمية، لكنها لم تستطع غض بصرها عن التكوين السياسي للتحالف الحاكم في السودان “الحرية والتغيير”، في ظل تصدر المشهد ببعض الأحزاب التي لها عداء تاريخي إقليمي مستمر مع أمريكا.

وعندما وقع انقلاب 25 أكتوبر 2021، ثابرت الولايات المتحدة الأمريكية على رفضه إعلاميا في نفس الوقت الذي تحاول فيه أن تقطف ثماره سياسيا، فسمحت للبرهان بدخول أراضيها لمخاطبة اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 22 سبتمبر 2022 الفائت، بينما رفضت مشاركته في القمة الأمريكية الأفريقية بواشنطن.

وفي سياق الأزمة السياسية في السودان، تظل الولايات المتحدة الأمريكية أبرز الوسطاء الدوليين بين الأطراف السياسية المدنية والمكون العسكري في محاولة لاستعادة الحكم المدني.

خلال أكثر من عقدين ظلت الصين الشريك الاقتصادي الأول للسودان بعد هيمنتها على إنتاج وصناعة وتصدير النفط السوداني
وقبل أيام قليلة، أعلن وزير الخارجية أنتوني بلينكن عقوبات تطال أي مسؤول سياسي أو تنفيذي في السودان يعرقل الاتفاق الإطاري الذي وقعته قوى سياسية والمكون العسكري في 5 ديسمبر 2022 الماضي.

وفي ظل المنافسة الشرسة بين أقوى اقتصادين في العالم، باتت أفريقيا أرض المواجهة الاستراتيجية، فالصين تتبنى نظرية الارتباط الاقتصادي بعيدا عن القيود والاشتراطات السياسية، بينما الولايات المتحدة الأمريكية مستمرة في سياسية الجزرة والعصا، بالارتباط السياسي جنبا إلى جنب الاقتصادي.

وانتهز الرئيس الصيني شي جين بينغ فرصة القمة العربية الصينية ليشير إلى هذه النقطة خلال لقائه رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، فعبَّر عن (رفضه للتدخلات الخارجية كافة في الشأن الداخلي السوداني)، وهي عبارة تلوح للاشتراطات الأمريكية في علاقتها مع السودان.

خلال أكثر من عقدين، ظلت الصين الشريك الاقتصادي الأول للسودان بعد هيمنتها على إنتاج وصناعة وتصدير النفط السوداني، ولكن الديون المثقلة التي تسبب بها تباطؤ نظام الحكم السابق في السودان عن سداد التزاماته تجاه الصين أدت لاضمحلال الاستثمارات الصينية في السودان ثم توقفها خاصة في مجالات البنى التحتية.

كما لم تحاول الصين قطع شعرة العلاقات الاقتصادية مع السودان عشما في استعادة زخمها، ولكونه يقع في مسار طريق الحرير الذي يمثل استراتيجية الصين الأهم للمستقبل القريب.

وفي مواجهة العصا الأمريكية الموجهة للسودان ورفض واشنطن مشاركة السودان في القمة الأمريكية الأفريقية، تقدم الصين جزرة كبيرة بالوعد الذي قطعه الرئيس الصيني للبرهان بإعادة النظر في ديون الصين على السودان، بما يعني عمليا استعادة الشراكة الاقتصادية بين البلدين.

يواجه السودان بذلك موقفا دوليا معقدا، إذ لا يمكنه الوقوف بين اللافتتين، لافتة القمة الأمريكية الأفريقية ولافتة القمة العربية الصينية، دون أن يتمحور شرقا أو غربا حسب التقديرات السياسية الداخلية.

إذا تجاهل السودان الوعود الصينية باستعادة الشراكة الاقتصادية وفضل المراهنة على الولايات المتحدة الأمريكية، فقد يؤدي ذلك لتفاقم الضغوط الأمريكية وانفرادها بالساحة الداخلية في السودان
إذا اعتبر السودان مشاركته في القمة العربية الصينية موقفا يحسم خياراته الاستراتيجية بالاتكاء على الشراكة الاقتصادية مع الصين، فإن ذلك يعني عمليا فقدان الدعم الأمريكي وربما الأوروبي في المحافل الدولية، خاصة المالية، وقد يؤدي لإبطاء -إن لم يكن إلغاء- عملية إعفاء الديون التي وصلت مرحلة متقدمة في يونيو 2021 وكان متوقعا أن تنتهي بإعفاء أكثر من 80% من ديون السودان بنهاية العام المقبل 2023 لولا انقلاب 25 أكتوبر 2021.

أما إذا تجاهل السودان الوعود الصينية باستعادة الشراكة الاقتصادية وفضل المراهنة على الولايات المتحدة الأمريكية، فقد يؤدي ذلك لتفاقم الضغوط الأمريكية وانفرادها بالساحة الداخلية في السودان، وفق هندسة سياسية قد تصنع استقطابا يزيد من الانقسام في المشهد المدني السوداني.

في البحث عن خيارات تتجنب الوقوف بين “اللافتتين” تبدو فرص السودان محدودة وغير مدروسة، فالسياسة الخارجية لا تصنعها مؤسسات متخصصة وعميقة التجربة والخبرة.

طوال عمر النظام السابق الذي امتد لـ30 سنة، كانت السياسة الخارجية هبة القرارات المتعجلة اللحظية، التي تصدر عادة من أعلى سنام السلطة التنفيذية دون الاستناد إلى مؤسسات صناعة القرار التقليدية المعروفة مثل وزارة الخارجية والمخابرات وغيرهما.

وبعد الإطاحة بالنظام القديم ازداد الوضع سوءا خلال حكومتي الدكتور عبد الله حمدوك الأولى والثانية، إذ لم تعد الرئاسة نفسها قادرة على التبصر بالقرار الحصيف، فضلا عن غياب الخبرة لدى وزراء الخارجية الذين أسند اليهم المنصب بعد الثورة.

الرئيس البرهان، الذي يفترض بعد توقيع الاتفاق الاطاري أنه أعد العدة للرحيل عن القصر الجمهوري، لا يحمل في حقيبته وهو متوجه إلى القمة العربية الصينية رؤية استراتيجية صنعتها مؤسسات خبيرة مختصة لتحدد خيارات السودان بين قمتي واشنطن والرياض.

الوعود التي قدمها الرئيس الصيني للبرهان بالنظر في الديون واضح أنها تمثل الموقف الصيني والمبادرة تجاه إصلاح عطب العلاقات الثنائية مع السودان، وتكشف أكثر ضعف التكوين الداخلي لاستراتيجية السياسة الخارجية بالسودان التي تنتظر دائما الفعل الخارجي.

لو توفرت مؤسسات داعمة لصناعة القرار الاستراتيجي لأدركت أن السودان قادر على استثمار هذا التناقض بتبنّي خيارات ترتقي بالشراكة الاقتصادية مع الصين، دون المخاطرة بالعلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة الأمريكية.

يحتاج السودان إلى الصين في تشييد البنى التحتية، خاصة المتعلقة بالنقل والطاقة، وصادرات المحاصيل والسلع الغذائية، بينما تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية تطوير القطاع الزراعي والطبي بتكنولوجيا متقدمة، لكن القاسم المشترك في المصالح الأمريكية والصينية هو الجيوبولتيك.

للسودان موقع جغرافي فريد ومتميز، يربط بين الإقليمين العربي والأفريقي مع إطلالة على البحر الأحمر الذي يمثل واحدا من أهم معابر التجارة الدولية، كما يربط السودان بين شمال ووسط أفريقيا وشرقها مع غربها، ويستطيع استثمار هذا الموقع اقتصاديا وسياسيا لحصد نقاط تأثير أفريقية تجعله مرتكزا للمحاور الدولية المتنافسة.

وللتدليل على ثقل الوزن الجيوبولتيكي للسودان، تجدر الإشارة إلى مسارعة إسرائيل للاتفاق مع الحكومة السودانية على السماح لطائراتها بعبور الأجواء السودانية حتى قبل توقيع اتفاقات أبراهام في يناير 2021.

خلاصة القول: يحتاج السودان إلى تصميم استراتيجية للسياسة الخارجية تعظم مكاسبه من المحاور الدولية دون الحاجة للارتباط بها.

إرم نيوز