منى أبو زيد تكتب: في عَولمة الخُرافة
هناك فرق
منى أبو زيد
في عَولمة الخُرافة
“الخرافة أكثر دواماً من الحقيقة”.. عبد الله القصيمي!
في فنّ الواقعية السحرية تتحقَّق متعة القارئ عندما ينجح الكاتب في انتزاع دهشته بسردٍ شديد الواقعية، لحدثٍ شديد الغرابة كما في “كتاب الرمل” لبورخيس.. “المسخ” لكافكا.. “أجمل رجل غريق” لماركيز .. إلخ..!
عندما تقرأ عن كتاب بورخيس الغريب، ذي الصفحات المتجددة بلا نهاية أو بطل كافكا الذي تحوَّل إلى حشرة ضخمة أو غريق ماركيز الذي تُوِّج ملكاً بعد موته لا تشعر ــ أبداً ــ أن مناخ السرد يتواطأ مع طقس اللغة لإدهاشك بل على العكس تماماً، يبتعد السرد عن الفهلوة مفسحاً المجال لغرائبية الحدث نفسه..!
وإن شئت مثالاً من المعيش فدونك حدث جلل مثل ذلك النهج الحكائي الغرائبي الذي سارت عليه وكالات الأنباء والصحف والقنوات الفضائية – قبل سنوات – في تناولها حكاية الأخطبوط العرّاف بول “الذي كان يتنبأ بنتائج المباريات مقابل بعض الطعام” وردود الفعل على تنبؤاته، والتي حاكت في تفاقمها ــ الذي يشبه انتشار العدوى ــ ردود الفعل الرسمية والشعبية التي أعقبت خبر موت الماما غراندي في قصة ماركيز “الأم الكبيرة”..!
إذ، وعلى طريقة رواد الواقعية السحرية ظلت وسائل الإعلام تردِّد بلا كلل، كان يا ما كان، كان هنالك حيوان بحري رخوي من فصيلة اللا فقاريات اسمه الأخطبوط بول، كان يعيش ــ في أمان الله ــ داخل حوض زجاجي في متحف للحياة البحرية بإحدى المدن الألمانية، عندما فكَّر أحدٌ ما في استخدام خياراته العشوائية لتناول وجبات طعامه، في التنبؤ بنتائج مباريات كرة القدم..!
ثمانِي نبوءات خرساء أجلسَت الفكي بول على كرسي الشهرة ونصَّبته حارساً برتبة مشير على بوابة الغيب المُواربة، وأظهرت هشاشة الواقعية المادية الغربية، وعَوْلَمَت فكرة التخلف “العالم ثالثيّ”، بل الأهم من ذلك كله أنّها قد أسهمت في أنسنة الاعتقاد في عالم الخرافة، وذلك بعد أن ثبُت بما لا يدع مجالاً للشك المعقول أن أحفاد هتلر من الجنس الآري ـ نفسه ـ لا يمانعون في زيارة القباب والأضرحة ولا يستنكفون الجلوس بين يدي أي فكي، عندما يتعلّق الأمر بفتوحات كرة القدم..!
ثم مات الفكي بول وشيع قبل سنوات إلى مثواه الأخير دونما ضجيج يُذكر، لكن الذي يعنينا في حكايته هو دلالة الحدث نفسه. في معرض تفكيكهم لمصطلح “الإيحاء النفسي” يقول علماء النفس إنّك إذا ما أردت أن توجِّه أنظار مجموعة من الناس نحو شيء ما فما عليك سوى أن تقف محدقاً نحو ذلك الشيء، عندها سوف يحذو الجميع حذوك. قل لهم إنّ البناية تحترق ولسوف تجد من يتبرّع قائلاً إنه قد اشتم رائحة الدخان، وآخر يجزم برؤيته ألسنة اللهب..!
والاستحواذ ــ عند ذات الاختصاصيين في علم النفس ــ هو أن تسيطر بعض الأفكار على بعض الأشخاص، فيعيشون انفعالات غير منطقية، ويأتون بأفعال غير سوية، قد توردهم موارد حوض الفكي بول أو قُطيَّة الفكي أبكر، لا فرق يذكر في موازين علم النفس الاجتماعي، الذي ينهض في مجمله على عَوْلَمة الأفعال، وأنْسَنة الانفعالات..!
صحيفة الصيحة