انقلاب الفريق عبود ووصاية الجيش على الحكم في السودان
مرت في يوم 17 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي الذكرى الـ64 لانقلاب الفريق إبراهيم عبود في 1958، بعد عامين من استقلال السودان في 1956. وبدأت بذلك عهود النظم العسكرية كان هو فيها الأول من ثلاثة حكمت لـ53 عاماً من سنوات استقلال السودان الـ66، وتخللتها ثورات للديمقراطية أطاحتها واحداً بعد الآخر، ولم تدم النظم الديمقراطية العاقبة سوى 13 عاماً في الحكم.
قال الفريق عبود في بيانه الأول الذي استنسخته بيانات الانقلابات اللاحقة، “كلكم يعرف ويدرك ما وصلت إليه البلاد من اضطراب وفوضى. وإننا إذ نقوم بهذا التغيير لا نرجو من ذلك نفعاً ولا كسباً، ولا نضمر لأحد عداءً، ولا نحمل حقداً. ولذا أطلب من الجميع أن يلزموا السكينة والهدوء. كل يقوم بعمله بإخلاص تام للدولة. كان الجيش يراقب أملاً أن ينصلح الحال، وتتغير الأوضاع إلى ما هو أحسن، ولكن وصل الحال إلى مرحلة لم يعد فيها رجال الجيش قادرين على التحمل والسكوت. لم يكن أمام القوات المسلحة غير التقدم وتسلم زمام الأمر لتصحيح الأوضاع ووضع حد للفوضى، وإعادة الأمن والنظام”.
ووصاية الجيش على الوطن حين تضطرب البلاد وتضربها الفوضى مما نسمعه حتى يومنا من الفريق ركن عبدالفتاح البرهان في خطاباته للشعب والجيش. وأركان هذه القوامة صدق حس الجيش بنذر الخطر على أمن البلاد واستقرارها جراء عجز السياسيين في الحكم. وهي قوامة من الجانب الآخر لها ما يبررها لأن الجيش خلا من الغرض السياسي فلا ينتظر من قوامته “نفعاً ولا كسباً” من ذلك الذي يكدر حكم السياسيين.
لم يكن عبود وحده من اقتنع أن الديمقراطية فشلت فشلاً مؤذناً بالخراب وأن الجيش المبرأ من السياسة لها يستنقذ البلاد من شرورها. ففكرنا السياسي في غالبه مطابق لعقيدة الجيش عن نفسه، أي من خلو وفاضه من السياسة. وترجع هذه المسألة إلى ملابسات اتصلت بانقلاب عبود. فاشتهر الانقلاب بأنه كان “عملية تسليم وتسلم”. فوقع الانقلاب إثر خصومة سياسية أزعجت رئيس الوزراء ووزير الدفاع عن حزب الأمة عبدالله خليل. فطلب من عبود تسلم الحكم في صلاحية الطوارئ حتى يصفو الجو السياسي، ولتحول ذلك الأمر بالطوارئ من وزير الدفاع إلى انقلاب كامل الدسم قصة تطول. وكانت واقعة تسليم الحكم من سياسي حاقن على بيئة الديمقراطية وشقاقها وتسلمه من الجيش هي التي روج لها فكرنا السياسي برهاناً على أن السياسة مما يهب على الجيش من المدنيين.
وجاءت الانقلابات اللاحقة في 25 مايو (أيار) 1969 و30 يونيو (حزيران) 1989 بما عزز فكرة إيحاء المدنيين للجيش بالانقلاب التي كان مبتدؤها في “تسليم وتسلم” عبدالله خليل للفريق عبود في 1958. فتواضعنا على أن الشيوعيين هم من أوحوا للجيش بانقلاب 25 مايو، كما أوحى الإسلاميون للجيش بانقلاب 1989. والدلائل على خلطة الشيوعيين والإسلاميين بالانقلابيين قائمة، ولكنها دون ترجيح القبول بعقيدة أن لوح الجيش خالٍ من السياسة تماماً، وأنه تحت الخدمة متى وسوس له مدني بالانقلاب.
لا تتفق الأدبيات السياسة اللاحقة مع قولنا بخلو الجيش من السياسة ونعراتها مع ما يبدو وضوح عملية “التسليم والتسلم” في 1958. فيذهب بعضها إلى أن “بريق الانقلابات العربية والأفريقية”، في قول أحد الضباط، أعشى عيون صفوة الضباط في الخمسينيات. وكان أحد ضباط الانقلاب وسكرتير المجلس الانقلابي العقيد حسين علي كرار عاد من مصر وقتها مبهوراً بما رآه من منزلة الجيش في المجتمع. وقال في التحقيق معه بعد سقوط النظام في 1964 إنه عاد من مصر ووجد مناخاً للانقلابات يريد به الناس تدخل الجيش لينعموا منه بما نعم به شعب مصر تحت حكم الجيش. وقال زميل له إن كراراً زاره في موقع عمله خارج الخرطوم “وجس نبضه عن الانقلاب”.
بين ثورة 1964 وانقلاب 2021: هل من سبيل للتفاؤل؟
وخلافاً لما يقال عن نظافة يد الجيش عن السياسة نجد بعض الضباط أنفسهم تصالحوا مع فكرة أن السياسة دخلت الجيش في ذلك الوقت. وقال بذلك نفس كرار للجنة التحقيق مع مدبري انقلاب 1958. كان الانقلاب في الجو كما يقولون ودار الخلاف حوله فيمن سيقوم به منهم، هل تقوم به المؤسسة بضباطها العظام أم صغار الضباط؟ وجاء في تقرير التحقيق في الانقلاب قول أحدهم إنه إن لم يقم الكبار بالانقلاب فسيقوم به الصغار، بل كشفت القيادة عن انقلاب لصغار الضباط بقيادة يعقوب كبيدة في 1957، وأحالت ضباطه للاستيداع، وفيهم الرائد جعفر محمد نميري الذي قام بانقلاب مايو 1969، وصار رئيساً للبلاد حتى أزاحته ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1964. وكانت الشبهة أن مصر من كانت وراء تحركات صغار الضباط.
وكان للجيش سياسته المهنية المحلية بجانب عيونه المخطوفة ببريق انقلابات العالم. فخالط الضباط شك في قدرة المدنيين على ضبط الأمن والنظام بعد حوادث أول مارس (آذار) 1954 التي صادم فيها شعب الأنصار وحزب الأمة الشرطة ووقعت ضحايا من الطرفين يوم افتتاح البرلمان. وكان حاضراً الافتتاح الرئيس اللواء محمد نجيب الذي يتهم الأنصار وحزبهم مصر بالوقوف من وراء خصمهم الحزب الوطني الاتحادي الداعي إلى وحدة السودان ومصر، سياسياً ومالياً حتى فاز عليهم. وكان أكبر مطعن في السياسيين في الحكم بالطبع اضطرابات جنوب السودان في أغسطس (آب) 1955، المعروفة بـ”التمرد” التي خرجت فيها الفرقة الجنوبية للجيش مع السياسيين القوميين ضد حكومة الخرطوم. ونجح الجيش في إخماد التمرد بعشرات الضحايا، بخاصة بين المدنيين من شمال السودان.
ولم تخلُ سياسات الجيش من ململة من شروط خدمتهم في زمن تحولت القيادة عليهم من الإنجليز إلى “ملكية” سودانيين. فكتب الصحافي جعفر حامد البشير عن كيف كان أحد معارفه القديمين، وهو اللواء أحمد عبدالوهاب، الرجل الثاني في انقلاب عبود، يبثه الشكوى عن انصراف الحكومة الوطنية عن العناية بالجيش. فقال له إنهم حين يقارنون منازلهم ومخصصاتهم مع الضباط في العالم العربي يجدون أنفسهم في الكفة الخاسرة. وحث اللواء عبدالوهاب صديقه الصحافي ليكتب عن تلك الأوضاع قبل أن يعرضها القائد العام للحكومة عن طريق وزير الدفاع، وسعد عبدالوهاب بعد اطلاعه على ما كتبه صديقه الصحافي في جريدة “صوت السودان”.
أما تذمر الجيش الأكبر فكان حول استحقاق أن يكون على رأسه فريق لا مجرد لواء، فقد رفضت الحكومة الوطنية في 1956 ترقية اللواء أحمد محمد باشا، أسوة بالقائد الإنجليزي للجيش السوداني الذي حل محله بعد الاستقلال، لرتبة الفريق بحجة أن عددية الجيش لا تؤهله لقيادة في مستوى الفريق، بحسب العرف العالمي. فاستقال اللواء أحمد وصارت مسألته على الشيوع في الصحف. ولا بد أن مظلمته كدرت العسكريين وهم يرون الملكية وقد سقطت ثمار الاستقلال والحكم كلها في عبهم.
هذا التشخيص للسياسة في الجيش قبل انقلابه الأول في 1958، مما قد يعيننا على فهم تحول غامض في الانقلاب إلى يومنا. فكان فهم ضباط الانقلاب حتى نهار 18 نوفمبر أنهم إنما ينفذون إجراءات الطوارئ التي أمر بها رئيس الوزراء ووزير الدفاع عبدالله خليل، وأنهم بصدد صياغة ترتيب سياسي مدني عسكري كان كلمهم عنه، ولكن ما اجتمع القادة في نهار 18 نوفمبر حتى فاجأهم عبود بأنهم في حالة انقلاب لا طوارئ. وتلا عليهم القائمة بأسماء أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة الانقلابي وقائمة بأسماء مجلس الوزراء طعم العسكريين فيها بمدنيين. ولا يزال غامضاً انقلاب السحر على الساحر ذاك. وقد تلقي سياسات الجيش التي أتينا عليها بعض الضوء على ذلك التحول المريب. فلربما أسعد الجيش، وهو مثقل بمظالم في الخدمة في شرط الاستقلال، أن جاءه الانقلاب يسعى إليه لا يكلفه مشقة السعي إليه. فانتهز السانحة غير هياب ولا حذر.
تواضع فكرنا السياسي على أن الجيش ينقلب على النظم الديمقراطية لتدارك الأمة من طيش السياسيين لا أصالة بما تمليه عليه سياساته المؤسسية والمهنية. وجعلت هذه العقيدة منه وصياً على الحكم. وهذه الوصاية على الحكم هي مادة خطب الفريق البرهان وذريعة انقلابه في 25 أكتوبر 2021. ويحتشد حولها جمع كبير من المدنيين كل لغرضه وفي توقيته. والخاسر الأكبر من هذه العقيدة وتجييشها هي قضية الديمقراطية التي لا مهرب منها إن أردنا وطناً يستثمرها لعافيته السياسة والاجتماعية.
ولا أعرف من نعى الديمقراطية السودانية في أول مصارعها مثل “نيويورك تايمز” غداة انقلاب عبود في 1958. فقالت إنه تدرع مسؤولية جسيمة. لقد أطاح نظاماً ديمقراطياً لتحل محله ديكتاتورية عسكرية، وليس هذا مما تنشرح له النفوس، ولم تنشرح نفوس السودانيين لعقود تحت النظم العسكرية. ولم يسقموا من تغييرها.
إسماعيل محمد علي
إندبندنت عربية