عودة النقابات والاتحادات المنحلة تفجر صراعا جديدا في السودان
فجر قرار المحكمة العليا بإعادة كل الاتحادات والنقابات في عهد الرئيس السابق عمر البشير إلى وضعها ما قبل الثورة السودانية، صراعاً جديداً محموماً حول الشرعية بين النقابات والاتحادات المهنية السابقة واللاحقة لثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 التي أطاحت حكم البشير والإسلاميين، فيما يشتد الجدل بين تيارات الرفض والترحيب بصورة تتداخل فيها خيوط السياسة والقانون بما يكفي لإلغاء المسافة الفاصلة بينهما.
صدمة وترحيب
وقضت المحكمة القومية العليا، مطلع نوفمبر (تشرين الثاني)، بإلغاء قرار لجنة إزالة التمكين وتفكيك نظام الـ30 من يونيو (حزيران) 1989، بحل الاتحادات المهنية واتحاد العمال، وإعادة الوضع إلى ما كان عليه من قبل تحت مبرر تمكين تلك النقابات من اختيار مجالسها بصورة ديمقراطية وفقاً لأحكام القوانين المنشئة لها.
وبينما رأت مجموعات في قرار المحكمة ردة عن أهداف الثورة وصدمة لكل من كان يحلم بالتغيير، رحبت أخرى ممن ينتمون للنقابات السابقة بالقرار، واعتبروه نصراً للعدالة والحركة النقابية، وتجلت أبرز تداعيات الصراع في المواجهة التي كادت تتحول إلى عراك ومواجهات عنيفة بين أعضاء النقابتين السابقة (المعادة) والحالية، عندما هم أعضاء النقابة السابقة بطرد النقابة الحالية من مقرها بالخرطوم، ما أدى إلى تدخل القوات الأمنية لحسم الأمر وإخلاء المبنى.
في السياق، وصف تحالف الحرية والتغيير النقابات والاتحادات المهنية التي تم حلها بعد الثورة، على لسان القيادي بالتحالف، عروة الصادق، بأنها كانت واجهات لحزب المؤتمر الوطني، وأن القرار يتسق تماماً مع إجراءات الانقلاب العسكري الذي أعاد لمنسوبي النظام السابق أموالاً وأصولاً ومكاسب ومناصب وتمكينهم من الهيمنة على مفاصل الدولة مرة أخرى.
عودة واحتجاج
ونظمت عدة أجسام نقابية من ضمنها لجنة الأطباء ونقابة الصحافيين السودانيين وعدد من تجمعات العاملين موكباً احتجاجياً ضد قرار عودة اتحادات ونقابات عهد البشير، وتوجه المحتجون من وسط الخرطوم إلى مقر المحكمة الدستورية مطالبين بعدم تدخل السلطة في العمل النقابي واستعادة الحكم المدني.
وقال إسماعيل التاج، القيادي في تجمع المهنيين السودانيين، إن الانتهاكات التي تعرضت لها النقابات والاتحادات المهنية المستقلة إضافة إلى إعادة الحكم العسكري لكيانات النظام السابق، طُرحت على مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك الذي يزور السودان حالياً.
في المقابل رحب اتحاد العمال السابق بقرار عودة النقابات والاتحادات المهنية، منوهاً إلى أن القرار يعتبر قضائياً وليس سياسياً أو إدارياً، ويتسق تماماً مع روح قانون النقابات الذي ينص على الفصل في النزاعات وحتى الخصومات داخله بواسطة القضاء وليس الحكومة، مذكراً بأن كل الحكومات العسكرية التي مرت على السودان كانت تقوم بحل النقابات، لكنها كانت أيضاً تواجه بالمناهضة حتى تعيدها.
وأكد خيري النور أمين علاقات العمل بالاتحاد العام لنقابات عمال السودان السابق في تصريح لـ”اندبندنت عربية”، أن الاتحاد تسلم مقره بالفعل وسيسعى من خلاله إلى مباشرة نشاطه في المرحلة المقبلة لتحقيق مكتسبات كبيرة للعمال ومعالجة إحدى أكبر الإشكالات المتمثلة في الخلل الكبير في هيكل الأجور التي لم تعد تواكب الوضع الاقتصادي.
تشكيك في الشرعية
واعتبر النور، أن قرار لجنة إزالة التمكين في 2019 بحل النقابات لم يكن شرعياً في الأساس وتم رفضه داخلياً وخارجياً، وتمت مناهضته منذ البداية بالطعن فيه لدى المحكمة الدستورية والمحكمة العليا، فضلاً عن أن الاتحاد يتمتع بعضوية واعتراف الاتحاد العالمي (المعسكر الشرقي) وكذلك بعلاقات وثيقة مع الاتحاد الدولي للنقابات (المعسكر الغربي)، ما يؤكد استقلال الحركة النقابية السودانية وحمايتها بموجب القوانين الدولية.
وأكد القيادي باتحاد العمال، استعدادهم للتفاوض مع الحكومة حول وضع ومستقبل وقانون النقابات في المرحلة المقبلة، وذلك على ضوء الاتفاقية الدولية رقم 144 (تعزيز الشراكة الثلاثية) بين الحكومة والعمال وأصحاب العمل، فهو لم يكن على عداء مع الحكومة الانتقالية، بل هنأ رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، وسعى لفتح حوار مع حكومته ومستعد للعمل مع أي حكومة.
جهود حل الأزمة السياسية في السودان تواجه ضغطا شعبيا رافضا
ونفى النور أن الاتحاد كان مسيساً، معتبراً أن الانتماء الحزبي لرئيس الاتحاد سواء كان مع اليمين أو اليسار، على الرغم من وجود قياديين من حزب المؤتمر الوطني المنحل على رأسه، لا يقدح في أهليتهم ولا يمنعهم من القيام بدورهم في الدفاع عن حقوق وقضايا كل العمال التي تقتضي خلع العباءة الحزبية.
ويستدل أمين علاقات العمل، على اعتدال أداء الاتحاد وحيادتيه، بأنه لم يعلن يوماً الإضراب العام أو العصيان أمام أي حكومة حمدوك السابقة أو البرهان الحالية، حرصاً منه على استقرار البلاد التي لم تعد ظروفها تحتمل، فضلاً عن أنه نجح خلال 30 عاماً في كبح ومنع كل الحكومات خلال عهد البشير من رفع الدعم عن السلع، وتقدم بمذكرة رافضة لرفع الدعم في حكومة حمدوك على الرغم من قرار حله.
وحول الصراع على مستوى الاتحادات المهنية، أوضح أن الاتحادات المهنية مهمتها تطوير المهنة وفق قانون 2004 وترقيتها ولا علاقة لها بمشاكل العاملين.
مواجهة التحديات
على الصعيد نفسه، دشن اتحاد أصحاب العمل السابق عودته وشرع في وضع خطة قصيرة المدى بالتنسيق مع الأجهزة والمؤسسات الرسمية المعنية، بغرض مواجهة التحديات المعيشية التي تواجه المواطن وتحقيق قدر من الاستقرار النوعي للاقتصاد الوطني.
وأوضح الأمين العام للاتحاد أمين عباس عقب تسلم مهامه، أن الاتحاد سيتوجه بعدها نحو إنفاذ استراتيجية اقتصادية علمية مشتركة متوسطة المدى بمشاركة خبراء اقتصاديين تركز على زيادة الإنتاج كماً ونوعاً للصادر في قطاعي الزراعة والثروة الحيوانية ومعالجة كل المشاكل والمعوقات المرتبطة بتقليل تكلفته وتحقيق القيمة المضافة لعدد من السلع والمنتجات لتعزيز استقرار سعر الصرف والحد من معدلات ارتفاع مستوى التضخم.
نقابة واتحاد
في المنحى نفسه، شدد عبدالمنعم أبو إدريس نقيب الصحافيين السودانيين، على أن شرعية النقابة الحالية تستمدها من الجمعية العمومية التي تضم 1314 صحافياً وصحافية من الممارسين للمهنة وفق النظام الأساسي شرط ممارسة المهنة، معلناً أن النقابة ستفتح خلال الأيام المقبلة باب العضوية مرة أخرى للذين لم يتمكنوا من التسجيل.
وأوضح أبو إدريس، أن النقابة في وضع قانوني سليم وتستمد شرعيتها من جمعيتها العمومية التي شارك فيها أكثر من 50 في المئة من العضوية المسجلة، وأجازت نظامها الأساسي واختارت لجنة للانتخابات التي أجريت بشفافية وحرية ونزاهة وفق الإجراءات والضوابط السليمة، تحت مرأى ومسمع السلطات من دون أن تتعرض لها في أي مرحلة سواء في الجمعية العمومية أو في الانتخابات التي كانت تؤمنها أجهزة السلطة.
وأكد نقيب الصحافيين لـ”اندبندنت عربية”، أن كافة الإجراءات بقيام النقابة تمت بموجب اتفاقية دولية صادق عليها السودان. وأضاف أن اتفاقية رقم 78 الخاصة بحرية التنظيم النقابي التي أجازتها الأمم المتحدة في مارس (آذار) 1948 ولم يصادق السودان عليها إلا في مارس 2021 تمنع أي تدخل حكومي بشأن التنظيمات العمالية والنقابات وما تتفق عليه في جمعياتها العمومية.
من جهة أخرى، قال محمد الفاتح نائب رئيس اتحاد الصحافيين السابق، “رغم التزام الاتحاد قرار تجميده بواسطة لجنة إزالة التمكين بعد حدوث التغيير، لكنه ظل يطرق أبواب كل مؤسسات العدالة من أجل فك تجميد نشاطه”، مشيراً إلى أن الاتحاد تم تكوينه عام 2013 بموجب قانون النقابات لعام 2010، الذي يحمي الحركة النقابية من التدخل الحكومي.
ونوه الفاتح، إلى أن هناك خطابات من المؤسسات الدولية للصحافة طالبت أيضاً بفك تجميد الاتحاد المسجل في منظمة العمل الدولي.
سياسي أم قانوني؟
من جانبه يرى المحامي محمود الشيخ عضو اللجنة السياسية للمحامين الديمقراطيين، أن الصراع النقابي الدائر الآن هو في حقيقته صراع سياسي بغلاف قانوني، على الرغم مما يدور من حديث واتهامات بأن قائد الانقلاب هو الذي يقف وراء كل ذلك، لكنه يعتقد أن جيوب النظام السابق هي من تقف وراء تعطيل لجان التسيير وإعادة النقابات المحلولة، وذلك بغرض إضعاف الموقف التفاوضي لقادة المكون العسكري عبد الفتاح البرهان ونائب رئيس مجلس السيادة السوداني محمد حمدان دقلو ومنعهما من الوصول لتسوية ثنائية.
ويضيف الشيخ “على الرغم من أن اتباع النظام البائد أنفسهم باتوا فرقاً شتى، ولكن لا يزال لديهم مداخلهم في كل أجهزة الدولة ويرغبون في استعادة مكتسباتهم القديمة بصورة تدريجية ويلتقون في ذلك مع رغبة البرهان أيضاً”.
ويستبعد عضو المحامين الديمقراطيين، أن يكون غرض البرهان من عودة الاتحادات السابقة هو إعادة تمكين “الإخوان المسلمين”، لكنه “يسعى إلى استخدامهم ضمن أوراق تقوية موقفه التفاوضي مع تحالف الحرية والتغيير لتحقيق مكاسب أكبر في الاتفاق السياسي المزمع التوقيع عليه، ثم من بعد ذلك لن يكترث لهم، لإدراكه أن العالم الخارجي لن يمد له يد العون وهو يقود مقطورة مخلفات الإسلام السياسي”.
جذور الصراع
وكانت لجنة إزالة التمكين وتفكيك نظام 30 يونيو 1989، بعد الإطاحة بنظام البشير وتشكيل أجهزة الفترة الانتقالية بموجب الوثيقة الدستورية في 2019، قد أصدرت في نفس العام قرار حل النقابات وحجز العقارات المسجلة والآليات والسيارات ووسائل النقل المسجلة باسم النقابات والاتحادات المهنية واتحاد أصحاب العمل، وشكلت لجنة إزالة التمكين لجاناً نقابية تسييرية إلى حين صدور القانون الجديد للنقابات وإجراء انتخاباتها.
وظل قرار التجميد سارياً حتى انقلاب قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان في 25 أكتوبر 2021، الذي جمد ضمن إجراءاته عمل لجنة إزالة التمكين وحل اللجان التسيير التي شكلتها اللجنة.
وفي مطلع نوفمبر الحالي صدر قرار المحكمة العليا بإعادة كل النقابات والاتحادات المهنية واتحاد العمال إلى ما كانت عليه قبل سقوط نظام الرئيس المعزول عمر البشير.
جمال عبد القادر البدوي
إندبندنت عربية