تحقيقات وتقارير

120 سنة من عمر جامعة الخرطوم… شعلة وطنية تزداد اتقادا

تعد جامعة الخرطوم التي تخطت 120 عاماً منذ افتتاحها على يد اللورد هوراشيو هربرت كتشنر، من ناحية معمارية، أحد الآثار التاريخية والبنايات التي صُممت على طراز العصر الفيكتوري، ومعلَماً عريقاً وبارزاً في العاصمة السودانية. كما تُعد من ناحية معنوية رمزاً حياً نابضاً لدورها السياسي إذ شهدت نشاط القوى السياسية الطلابية المختلفة وتنافسها، ما جعل منها المؤسسة المدنية الأعرق والأكثر إلهاماً للشعب السوداني لمجابهة الاستعمار، وتخرج فيها نخبة أفراد المجتمع السوداني الذين لعبوا دوراً محورياً في بناء مؤسساته الوطنية والسياسية. ولعبت الحركة الطلابية في تلك الجامعة دوراً بارزاً في تاريخ السودان الحديث، ومنها انطلقت النشاطات السياسية التي واجهت الانقلابات العسكرية، بحركات تيارات اليمين واليسار السياسي في الستينيات التي أشعلت ثورة 21 أكتوبر (تشرين الأول) 1964، وحراك “مؤتمر الطلاب المستقلين” ثم “حركة الطلاب المحايدين” في الثمانينيات ومنهم اشتعلت ثورة السادس من أبريل (نيسان) 1985. وشهدت ساحات الجامعة وشارعها الشهير المسمى باسمها انتفاضات عدة ضد نظام الرئيس السابق عمر البشير قبل سقوطه في عام 2019.
تأسست جامعة الخرطوم على يد الاستعمار الإنجليزي، وافتُتحت في الثامن من نوفمبر (تشرين الثاني) 1902، كمدرسة ثانوية حملت اسم الجنرال الإنجليزي تشارلز جورج غردون باشا، تخليداً لذكراه من حكومته. أشرف عليها اللورد كتشنر فكانت أول مشروعاته لتخرج كوادر تدير الدولة السودانية، كما أنشأ عدداً من الوزارات والمصالح الحكومية على شارعها. والجامعة التي تعد أرفع مؤسسة تعليمية بالبلاد، كانت تتقيد عند تأسيسها بالنظام الأكاديمي الإنجليزي، وفي عام 1944 تحولت إلى كلية جامعية، شهادتها مرتبطة بجامعة لندن. وفي عام 1951 تم ضم “كلية كتشنر الطبية” إليها لتكوين كلية الخرطوم الجامعية. وعند استقلال السودان عن الحكم الإنجليزي في عام 1956، أعلنتها الحكومة الوطنية جامعة مستقلة باسم “جامعة الخرطوم”.

ذكرى غردون

جاء اختيار اللورد كتشنر لاسم “كلية غردون” كنوع من التكفير عن الذنب بوصوله متأخراً لنجدته وفك الحصار عنه في عام 1885، إذ تأخرت الحملة التي طلبها غردون باشا لحمايته نحو أربعة أشهر حتى أصدرت بريطانيا قرارها بالتحرك. ورحبت بريطانيا بالاسم الذي اقترحه كتشنر الذي خطط لها بأن تكون نواة لنقل المعرفة الأوروبية وتوفير فرص التعليم لأبناء السودان، فانهالت التبرعات من أغنياء بريطانيا لتحقيق هدفه.
وكان السودان يتبع للخديوية المصرية التي استعانت باللواء تشارلز جورج غردون الذي قُتل يوم تحرير الخرطوم، وكانت جيوش الإمام محمد أحمد المهدي المدعومة من القبائل قد حاصرت الخرطوم في مارس (آذار) 1884 وعزلتها عن العالم الخارجي. ولم تفلح الحملة التي طلبها غردون في الوصول إليه، بعد أن تحركت من مصر ثم عطلتها قوات المهدية، وانضم أنصار المهدي “الدراويش” إلى قوات المهدية واقتحموا قصر الحاكم العام البريطاني الذي كان يسمى “سرايا الحاكم العام” في الخرطوم صباح 26 يناير (كانون الثاني) 1885، وقتلوا غردون على سلم القصر الذي سقط منه، وأصبح معلماً أثرياً يؤرخ لتلك الحادثة. وعلى الأثر انتهت فترة الحكم التركي التي استمرت منذ عام 1821. ثم أعيد غزو السودان واحتلاله بواسطة دولتي الحكم الثنائي، بريطانيا ومصر، بين عامي 1896 و1898 بهدف حماية منابع النيل من الفرنسيين. وكانت الحكومة البريطانية قد تفاوضت مع الإيطاليين والألمان لإبقائهم خارج وادي النيل، ولكنها لم تستطع ثني الفرنسيين الذين وصلوا عبر حملتهم إلى فشودة في أعالي النيل في أكتوبر (تشرين الأول) 1897. وبعد تقدم جيش كتشنر لغزو السودان اضطر الفرنسيون للانسحاب من فشودة تحت ضغط بريطاني وقد أوقفت معاهدة أنجلو- فرنسية في مارس (آذار) من عام 1899 التوسع الفرنسي صوب منابع النيل.

تاريخ سياسي

نالت جامعة الخرطوم حظاً وافراً من الكتابة عنها ضمن التاريخ السياسي للسودان، ظهر ذلك في أدبيات المؤرخين من جنسيات مختلفة منهم سودانيون وإداريون بريطانيون، وغيرهم من الأكاديميين ممَن زاروا السودان في تلك الفترات ووثقوا أحداثها.
وكان البروفيسور بدر الدين الهاشمي ممن تناولوا تلك الكتابات وترجمها في كتب عدة، إضافة إلى مقال تاريخي للبروفيسورة هنريكا كوكليك بعنوان “الخرطوم… إعادة بناء مدينة استعمارية صحية 1899- 1912″، ويدور حول تاريخ إعادة بناء المستعمر لمدينة الخرطوم في تلك الفترة. وجاء في المقال أنه “بعد العهد التركي- المصري بالسودان 1821 – 1885، بدأ الاستعمار البريطاني للسودان بقيادة الجنرال السير هيربرت كتشنر، في 19 يناير (كانون الثاني) 1899، بعد احتلال بريطانيا مصر في عام 1882، وبدأ كتشنر في تخطيط الخرطوم لتكون أكبر مدينة في أفريقيا، وتنمو وتنتعش اقتصادياً وتغدو مركزاً ضخماً لتجارة القطن”. وجاء في المقال أيضاً “كان كتشنر قد ناشد في عام 1898 الخيرين في بلاده للتبرع بما يكفي لإقامة مدرسة ثانوية في الخرطوم تسمى كلية غردون التذكارية. واستجاب لنداء كتشنر هنري ويلكم الأميركي المولد والتعليم، وأحد كبار رجال الصناعات الدوائية في بريطانيا وتبرع لحكومة السودان بمبلغ كبير من المال. عرض ويلكم تجهيز معمل متكامل يقام في مباني كلية غردون التذكارية شرط أن تتولى الحكومة إدارة المعمل وأن تدفع رواتب كل العاملين به. وعرض أيضاً إقامة متحف علمي طبي بالخرطوم مجاور لذلك المعمل”.
وجاء في كتاب “الحياة السياسية في جامعة الخرطوم خلال قرن من 1910 إلى 2010 القوى السياسية واتحاد الطلاب”، لمؤلفه الدكتور حاتم عبد الفاضل، “أن المستعمر لم ينجح في محاصرة الطلاب فأنشأوا أول تنظيم سياسي في تاريخ السودان عام 1918، وتعلموا إرسال المنشورات وكتابة المقالات في الصحف وابتعاث طلاب سراً للدراسة في مصر. كما نظموا أول تظاهرة في تاريخ السودان سيرها عدد من خريجي كلية غردون من أعضاء جمعية الاتحاد السوداني 17 يونيو (حزيران) 1924 في الخرطوم، ثم تبعتها تظاهرات في مدن السودان الأخرى”.

في كتابه “كفاح جيل”، كتب محمد خير وزير الخارجية في حكومة الفريق إبراهيم عبود، عن أنه كان ضمن خريجي الجامعة الذين أسسوا مبادرة “مؤتمر الخريجين” في عام 1938، على غرار “مؤتمر الخريجين” في الهند الذي أسس لاستقلالها من الإنجليز، و”حاول أعضاء المؤتمر بداية إخفاء أي ميول سياسية لتجنب الاحتكاك مع الحكومة الاستعمارية لكن سرعان ما أعلنوا عن هدفهم صراحة وهو استقلال البلاد”. وجاء فيه أيضاً “نجح المؤتمر في رفع الوعي الشعبي بأهمية إنهاء الاستعمار بوسائل مدنية سلمية، تجلت في إضرابات واحتجاجات قوية منظمة. ومع تزايد النشاط السياسي، بدأت تظهر تكتلات داخل المؤتمر تحمل أطروحات فكرية وسياسية خاصة، ما أسفر عن إعلان هذه التجمعات لأحزاب صغيرة تجمعت لاحقاً في حزبين رئيسين هما الحزب الوطني الاتحادي، وحزب الأمة القومي، ويُنسَب للأول الفضل الكبير في استقلال البلاد، وشكل منفرداً أول حكومة وطنية قبل الاستقلال، بموجب انتخابات أقرتها اتفاقية الحكم الذاتي التي مهدت للاستقلال رسمياً وإجلاء الوجود الإنجليزي في عام 1956”.

ولتميزها النخبوي في التعليم وإضفائها لمسة تميز اجتماعي على خريجيها الذين يقدمون على الالتحاق بها بعد إحرازهم أعلى الدرجات في امتحانات الشهادة السودانية، عُرفت “جامعة الخرطوم” فنياً وفي الأدب الشعبي السوداني بوصف “جميلة ومستحيلة” وهو مقتبس من اسم أغنية نظمها الشاعر محجوب شريف وغناها الفنان محمد وردي، في سبعينيات القرن الماضي.

ربطت جامعة الخرطوم بين الحياة الأكاديمية، واهتمام الطلاب بالقضايا السياسية. وكان لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم، مواقع في قلب الجامعة منها مقهى النشاط، والميدان الشرقي، حيث تُقام الندوات السياسية للزعماء السياسيين من اليمين واليسار، وشارع المين، ومواقع أخرى تابعة للمدينة الجامعية منها مجمع داخليات “البركس” التي كانت ثكنات للجيش البريطاني سابقاً، وشهد شارع الجامعة رحيل الجيش من ثكناته وهم يحملون أمتعتهم عبر نفق الجامعة إلى السكة الحديدية حيث أقلتهم القطارات. يُذكر أن هذه المناطق داخل الجامعة كان ينطلق منها النشاط السياسي ضد الحكومة.

نواة الاحتجاجات

ومنذ مجيئها إلى الحكم، كانت حكومة البشير تمارس ضغوطاً على إدارة جامعة الخرطوم لإغلاقها في كل فترة تشهد اضطرابات سياسية وتظاهرات حتى لا تتسع رقعتها. ومع ذلك كانت التنظيمات الشبابية لجامعة الخرطوم هي نواة الاحتجاجات، فمنها كانت تنطلق شرارة البداية لاحتجاجات الجامعات الأخرى في مدن السودان المختلفة، خلال الأعوام الماضية مثل تظاهرات عام 2005، و2009 و2013 وغيرها. ومنها كان الالتحام بالمتظاهرين في شارع القيادة العامة للقوات المسلحة عبر نفق جامعة الخرطوم الشهير. وفي مضاربها حاصرت القوات الأمنية المحتجين بعد فض اعتصام القيادة العامة في الثالث من يونيو (حزيران) 2019، وطاردتهم وصولاً إلى النيل حيث ألقت بعدد من الشباب بعد قتلهم، ووجِدت جثثهم مربوطة بالحجارة.
قدمت الجامعة أيضاً عدداً من المبادرات منها “مبادرة الوفاق الوطني” في عام 2014 بين الأحزاب السياسية، بما فيها حزب المؤتمر الوطني الحاكم سابقاً والحركات المسلحة، شملت تنظيمات نقابية وتكوينات قبلية ومؤسسات دينية، بهدف إيقاف الحرب، ومكافحة الفقر وغيرها من الأهداف.

ومنها انطلقت “مبادرة أساتذة جامعة الخرطوم” بالتعاون مع “الهيئة النقابية” لأساتذة الجامعة، مع انطلاق الثورة في ديسمبر (كانون الأول) 2018، والتف حولها عدد من أساتذة جامعة الخرطوم وكان هدفها الأول المشاركة في إسقاط النظام ودعم الشارع. وبحسب ما ذكرت لجنة المبادرة فإن أهداف اللجنة تركزت على “إعادة تكوين نقابة أساتذة جامعة الخرطوم، وتكوين لجنة تسييرية لإعادة النقابة، ودعم الفترة الانتقالية، والتحول الديمقراطي، وتطبيق العدالة الانتقالية، وقيام المجلس التشريعي، ودمج الصف الوطني، وتأهيل ورفع قدرات الشباب السوداني ليكون لهم دور في قيادة البلاد في المرحلة المقبلة، والتفكير في حل القضايا الوطنية، وفق آلية التفكير الأفقي والتخصصي بهدف إسقاط الديكتاتورية الانتقالية وصولاً إلى تحول مدني ديمقراطي يقوم على الحرية والسلام والعدالة”.

إندبندنت عربية