السودان بين زخم الثورة وعجز السياسة
من يتأمل اليوم في حال الاجتماع السياسي للسودانيين، لا سيما عبر القوى الحزبية وغيرها ممن يمارسون السياسة كالعسكر، سيتعين عليه قبل أي شيء معرفة كيف أفسد حكم الإخوان جهاز الدولة العام ودمر خلال 30 عاماً أصول الحياة الحزبية في البلاد التي كانت في طور التجريب.
ومتى أدركنا ذلك سنعرف أن واقع التعبير السياسي الذي تصدر عنه الأحزاب السياسية السودانية اليوم سيكون هو المتاح الذي لا يعكس إلا مطلق الحدود الدنيا مما تيسر للعمل السياسي وأقل بكثير مما تتطلبه تحديات المرحلة اليوم، فضلاً عن الإشكالات التي صاحبت بناء الدولة السودانية ذاتها وما رافق استقلالها من اختلالات بنيوية لطبقة حاكمة ظل وعيها المركزي مهيمناً على تصوراتها لفعل سياسي لم يتناسب مطلقاً مع حاجات بلد مثل السودان متعدد اللغات والأعراق من ناحية، فيما كان التكوين السياسي يضمر في نمط تفكير تلك الطبقة الحاكمة وعياً معطوباً اتخذ من تقليد المستعمر هوية طبقية لوظيفته السياسية من ناحية ثانية، وهو ما كان له بعد ذلك بعقود أخطر العواقب على بنية الدولة.
وهكذا يشتغل اليوم تمانع من بقايا ذلك التكوين المعطوب للطبقة الحزبية تضمره هوية الفعل السياسي للأحزاب السودانية في مجال متى ما تأملنا في امتناعه ذاك، وجدنا أنفسنا أمام أنماط لوعي مفكك لا يعكس حتى تفسيراً متسقاً لفلسفة العمل الحزبي، ناهيك عن الحدود الدنيا لمهمة انتظام وطني تقتضيها ضرورة العمل الحزبي والسياسي في كيان لدولة حديثة.
إن منطق التفكير السياسي الذي تختبره الكيانات الحزبية على ما يظهر من مواقف تلك الأحزاب والتحالفات، لا يعبر عن وعي قابل للفهم، إذ كيف يمكن لقوة سياسية مثل حزب المؤتمر الوطني حكمت 30 عاماً عبر انقلاب عسكري وفشلت فشلاً خلف خراباً عظيماً، أن تحاول مرة أخرى العودة لحيازة السلطة بعد اقتلاعها بثورة شعبية من دون أن ندرج محاولات عودتها تلك للحكم ضمن جنون سلطوي فاسد لا علاقة له بمنطق سليم للسياسة أو النظام.
ثم كيف يمكننا أن ندرج تصرفاً أحمق مثل تصرف المكون العسكري حين انقلب على المرحلة الانتقالية في الـ 25 من أكتوبر (تشرين الأول) 2021 وهو يدرك تماماً استحالة قدرته على حكم السودان مرة أخرى من النقطة التي وصل إليها نظام عمر البشير، لأنه بمجرد التأمل في كيفية ابتلاع حزب المؤتمر الوطني لجهاز الدولة العام خلال 30 عاماً سيكون كافياً للقناعة بأن اللحظة التي انهار فيها نظام البشير كانت بمثابة العجز المطلق لنتيجة ابتلاع الحزب للدولة.
وأخيراً كيف يمكننا أن نفهم، بمنطق السياسة، إصرار تحالف حزبي يفسر أي استبعاد له نتيجة لخطايا سياسية قاتلة ارتكبها ذلك التحالف عبر تأييده لانقلاب الـ 25 من أكتوبر، عن أي تسوية سياسية جديدة حتى ولو كانت ذات سقف متواضع، بأنها استبعاد له كمكون سوداني أصيل، متوهماً إسقاطاً يستدر به عطفاً شعبوياً مجانياً؟
والأخطر من ذلك كيف يمكننا أن نفهم أن مجرد استبعاد هذا التحالف من استحقاق التسوية سيكون بالنسبة إليه بمثابة إعلان بالوعيد والتهديد بما لا تحمد عقباه؟
هذه الطرائق كلها في التعبير السياسي الفج التي نراها اليوم لتلك الكيانات السياسية هي في الأصل نتيجة لعطب أساسي في نمط تفكير يتصل بوعي ما قبل الدولة، وهو نمط عززه وأحياه نظام الإخوان حين حزب القبائل في السودان عبر تسييس نظام الإدارة الأهلية، ليكتشف فجأة أنه أصبح بديلاً واقعياً شرساً سمم المجال العام ونتج من فراغ سردية الإسلام السياسي من أية هوية أو مضمون معرفي لإدارة الدولة التي سطا عليها ذلك التنظيم بانقلاب عسكري عام 1989.
فاليوم ما هو باد وظاهر للعيان يعكس عادية التعبير الفوضوي المتخلف في الممارسة السياسية عبر إضمار وعي مناطقي أو قبائلي، كما كان يفعل ما يسمى المجلس الأعلى لنظارات البجا، تقوم حجته الواهية على ضرورة التمثيل الهوياتي من دون أي مضمون أو منطق لهوية سياسية أو دستورية تتقبل ذلك التمثيل.
هذه الطريقة الفجة في التعبير السياسي تهدر القيمة والمعنى والمسؤولية الفردية والأخلاقية، فيتم عبر ذلك التمثيل السياسي الكاذب تغييب الحقائق والتصالح مع الفاسدين والمجرمين والساقطين سياسياً، إذ يكون من العادي جداً وجود سياسي فاسد وفاشل يتصدر ويتقدم بلا أي حرج، ليكون قائداً في المشهد الجديد بعد الثورة مع التسامح الكامل مع كل ما مارسه من خطايا وجرائم سياسية من دون أي حساب ولا مساءلة ولا حتى تأنيب ضمير، أي من دون أن يدفع ثمن أخطائه بمقتضى الحق والقانون.
بل تطور الأمر إلى حدود سريالية تعكس لنا مدى الفساد الذي ضرب جهاز الدولة والتجريف الذي عممته “ذهنية الإنقاذ” جراء تسييس القبائل، إذ بدأنا نرى عودة مسؤولين كبار كانوا هاربين خارج البلاد حين أسقطت الثورة الجنرال البشير في الـ 11 من أبريل (نيسان) 2019 ، مثل محمد طاهر إيلا وهو آخر رئيس وزراء للبشير الذي عاد لمدينته بورتسودان وتم استقباله من قبل شرطة المدينة وسط احتفاء من جموع كثيرة في مطار المدينة، كما تم الاحتفال به في حشد قبائلي كبير بمدينة سنكات، فيما يجري الإعداد لاستقبال متوقع لعودة رئيس جهاز الأمن السوداني في أيام البشير صلاح قوش من خارج السودان.
هذه المؤشرات التي تزحم مفردات الواقع السياسي السوداني المعطوب، فضلاً عن كونها دلالة عميقة لفساد عظيم ضرب بنية الدولة، فهي كذلك تنهض اليوم مؤشراً على امتناع يسد الواقع السياسي ويعطله عن صيرورة سليمة للخروج من الأزمة.
واليوم ثمة خيار لما هو متاح من حدود دنيا للطريق إلى تسوية سياسية بإمكانات متواضعة على ما تحاول ذلك قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، لكننا إذا نظرنا إلى وعيها لقضية استراتيجية خطرة كقضية شرق السودان ضمن الإطار الذي وضعته لها في بنود الإعلان السياسي المقترح، سنجد أنه يتحدث عن القضية من دون أي تركيز جوهري عليها ومن دون وعي بمركزيتها كقضية استراتيجية لها علاقة عضوية غير منفكة أبداً بفشل أو نجاح مشروع الثورة السياسي في المركز، نظراً إلى الطبيعة الجيوسياسية لشرق السودان من ناحية، ونظراً إلى تهميشه الذي أصبح معه اليوم قنبلة موقوته من ناحية ثانية.
وعلى رغم كل ما يقتضيه ذلك من اهتمام خاص وحساسية وطنية عالية بمصير يضع لشرق السودان معالجات جذرية تترجم طبيعة الوعي بقضيته في تفكير قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، لكن للأسف سنجد أن تلك الصياغة ستؤكد إشكال الوعي المركزي لرؤية القوى السياسية السودانية من حيث عدم قدرتها على قراءة الأخطار التي كان ينطوي عليها شرق السودان طوال السنوات الثلاث الماضية على مصير السودان بوصفه “كعب أخيل للثورة السودانية”، ورصد مؤشراته الكارثية إلى جانب التفكير الاستراتيجي الذي تستحقه معضلة كيانية تواجه مصير الدولة السودانية مثل قضية الشرق.
ونتصور أن هذا الإغفال المستمر لقضية شرق السودان في الأجندة الاستراتيجية للحرية والتغيير على رغم الضربات التي أصابت تحالف قوى الحرية والتغيير، وأخرجته من السلطة عبر انقلاب الـ 25 من أكتوبر 2021، هو بمثابة خطر كبير على مستقبل معالجة القضايا الاستراتيجية للدولة السودانية، إذ نعتقد بكل وضوح أن شرق السودان سيكون، إن ترك على حاله، مأزق الدولة السودانية في المستقبل.
كما أن جملة “كفاءات وطنية” من دون إضافة كلمة “مستقلة” التي وردت في الإعلان السياسي المقترح لقوى الحرية والتغيير عند تكوين الحكومة المرتقبة، لا تخفى ما يمكن إدراجه كرغبة مواربة في نية تولي أحزاب قوى الحرية والتغيير لوزارات حكومة المرحلة الانتقالية المقبلة، الأمر الذي إن حدث سيشكل خطورة بالغة في ما يمكن أن نسميه مستقبل الفرصة الأخيرة لبقاء الدولة السودانية.
ذلك أن تولي الأحزاب السياسية لإدارة وزارات الدولة في أي تشكيل لحكومة المرحلة الانتقالية سيعيد إنتاج الأزمة السابقة بصورة أكثر استفحالاً، وسيؤكد لنا ما ظللنا نردده من عطب كياني في بنية الأجسام السياسية السودانية، لهذا فمن الأهمية بمكان تضمين جملة “كفاءات وطنية مستقلة” وبطبيعة الحال لا تعني الجملة أي تصور عن خلو تلك الكفاءات الوطنية المستقلة من تأهيل سياسي ووعي ثوري يمكن معه تكوين حكومة “تكنو-سياسية”.
ما وصفناه آنفاً من حال العطب الذي ضرب القوى السياسية السودانية اليوم وعجزها حتى الآن عن تدبير سوية وطنية لإنقاذ البلاد من مصير مجهول لا يعني إغفالاً للقوى الثورية، فالثورة التي أطاحت بنظام الإخوان كانت ثورة حقيقية، ولا تزال القوى الحية للثورة هي الفاعلة اليوم في الشارع الثوري والحراك على الأرض عبر لجان المقاومة، لكن ما هو ظاهر كذلك أن تلك القوى الثورية لم تصل حتى اليوم لوحدة مركزية عبر برنامج ثوري سياسي يعكس نضجاً يتماهى مع قوى الأحزاب الحية.
فإذا كان من شأن حراك القوى الثورية أن يعكس الزخم الثوري وينشط في صناعة التصعيد وإدارة الحشود وصولاً للكتلة الحرجة التي تسقط النظام، فإن ما يقتضيه الوضع السوداني اليوم من قوى الثورة، بعد التجربة المريرة للأعوام الثلاثة، هو صناعة الكتلة التاريخية التي تنظم أولويات برنامجها الثوري ضمن استراتيجية سياسية يقودها تحالف قوى سياسية جامع تحت مشتركات سقف وطني يجمع جميع قوى الثورة ويحدد مطالبها، وهذا ما لم يحدث للأسف حتى اليوم.
وبين قوى حزبية سياسية ضعيفة ومنهكة، وقوى ثورية شبابية قادرة على صناعة الكتلة الحرجة وإسقاط النظام، لكنها في الوقت ذاته غير قادرة على الاهتداء إلى التقاط لحظة صناعة الكتلة السياسية التاريخية، يكمن العجز عن المزاوجة بين التدبير السياسي والفعل الثوري، وهي معضلة لا يمكن الانتصار عليها إلا بالوعي النقدي والفكر الثوري السياسي عبر إدارة حوار لا بد منه بين جميع قوى الثورة لتلمس طريق صحيح في منعطف حرج.
محمد جميل احمد
إندبندنت عربة