استقلال القضاء السوداني “محل شك” وتحذيرات من فوضى
أصبح الحديث عن استقلالية الأجهزة العدلية في السودان، تحديداً القضاء والنيابة العامة، محل شك وانتقاد واسعين من قبل الشارع السوداني، بخاصة بعد إلغاء قرارات لجنة تفكيك نظام الرئيس المعزول عمر البشير إبان حكومة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك وإعادة الأموال والشركات والعقارات من جديد إلى عناصر النظام السابق، ما يثير تساؤلات حول ما يدور في دهاليز المنظومة القضائية.
الهبوط الناعم
يقول عضو اللجنة السياسية في التحالف الديمقراطي للمحامين السودانيين محمود الشيخ إن “المكون العسكري ظل يعمل منذ 11 أبريل (نيسان) 2019 بقناعة تامة بأن التغيير الذي أحدثته ثورة ديسمبر (كانون الأول) كان انقلاباً لعزل عمر البشير عبر مشروع الهبوط الناعم الذي يقوم على تفكيك بنية نظام الإخوان وفتح باب المشاركة في الحكم بصورة واسعة للآخرين حتى يشهد السودان انفتاحاً مع المجتمع الدولي”، وأضاف “لكن هذا المشروع (الهبوط الناعم) عارضه تحالف قوى الإجماع الوطني الذي تأسس عام 2009 وضم الأحزاب السودانية المعارضة من منطلق أنه يريد إسقاط النظام السابق بالكامل وأن التخلص من بعض قيادات المؤتمر الوطني لا يعني التخلص من النظام الذي حكم البلاد 30 عاماً، ولا يشمل تفكيك المنظومة العدلية”.
وأردف “واضح أن المقصود ألا يتم المساس بكل ما يتعلق بشؤون العدالة ولا يخفى على أحد ما حدث من جريمة بفض الاعتصام الذي راح ضحيته قرابة 200 قتيل إضافة إلى مئات الجرحى والمفقودين، ثم جرائم مواكب المتظاهرين ضد انقلاب البرهان للمطالبة بالحكم المدني التي تعرضت للعنف المفرط مما أدى إلى سقوط 120 متظاهراً وأكثر من 5 آلاف مصاب، فضلاً عن الاعتقالات القسرية وعمليات التعذيب بحق المحتجين، بالتالي توالت سيناريوهات نظام البشير ذاتها من خلال تواصل انتهاكات حقوق الإنسان وبقاء الملف العدلي كما هو منذ بداية حكم نظام الإخوان في 30 يونيو (حزيران) 1989 وحتى الآن”.
ملف شائك
وشرح الشيخ “لهذه الأسباب ظل ملف معالجة النظام العدلي في البلاد وإصلاحه المطلب الرئيس والأول للجان المقاومة، على أن تطاول يد العدالة كل من ارتكب جرماً في حق المواطن السوداني والوطن، ولعل هذا هو مبعث مخاوف المكون العسكري الذي يسيطر على المشهد السياسي تماماً حتى في عهد حكم حمدوك، كما نجد أيضاً أن وقوف العسكريين ضد تسليم البشير إلى المحكمة الجنائية يعود لخوفهم من إدلائه بمعلومات تطالهم وتحملهم المسؤولية القانونية تجاه ما ارتكب من جرائم في حرب دارفور”.
وزاد “الملف العدلي شائك للغاية ولن تستقيم الحال في هذا الجانب إلا من خلال إصلاح المؤسسات العدلية وتطهيرها من خلايا أجنحة الإخوان وإعادة صياغة القوات النظامية من جيش وشرطة وجهاز الأمن والاستخبارات”.
واستشهد الشيخ بما حدث من اقتحام لمجموعة محسوبة على حزب المؤتمر الوطني (المحلول) مقر اتحاد المحامين السودانيين في الخرطوم للمطالبة بإنفاذ قرارات بعودة آخر نقابة في حقبة الرئيس المعزول عمر البشير وبدأت الأزمة بإعلان لجنة الاستئناف التابعة لمجلس السيادة الانتقالي إلغاء قرار لجنة التفكيك القاضي بحل المكتب التنفيذي ومجلس نقابة المحامين السودانيين وبطلان جميع الآثار المترتبة عليه وتوجيهها للجهات المتخصصة في تنفيذ القرار، قائلاً إنه “قرار لا يستند إلى أي أساس قانوني، بل يجسد المهزلة الكاملة لانتهاك القانون في البلاد”، ولفت إلى أن “ما يحدث داخل المؤسسة العدلية في بلادنا من انتهاكات صريحة وتواطؤ واضح مع عناصر المؤتمر الوطني يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن هناك أجنحة متصارعة هدفها وقف حراك نقابة المحامين وقطع الطريق أمام جهودها التي نتج منها مشروع الدستور الذي أعدته للتوافق عليه بين المدنيين والعسكريين ليحكم الفترة الانتقالية وأعلنته للكافة وحصل على إجماع معظم القوى السياسية والمجتمعية والمجتمعين الدولي والإقليمي، فضلاً عن تعطيل أي تسوية سياسية لحل الأزمة السودانية، فما يحدث هو صراع سياسي بامتياز لإجهاض قطار الثورة”.
تسييس الأجهزة
في السياق أوضح رئيس مجلس أمناء هيئة محامي دارفور المكلف الصادق علي حسن أن “ما يجري في دهاليز العدالة السودانية عقب انقلاب البرهان هو نتاج للتطابق في السلوك ما بين التخلي السياسي عن الانتقال المدني الديمقراطي بواسطة قادة الانقلاب والتخلي القانوني بواسطة القائمين على أجهزة القانون في تطبيق أحكام القانون والعدالة، مما يمهد لدخول البلاد مرحلة الفوضى الشاملة”، مضيفاً “الباحث في الأجهزة العدلية القائمة حالياً يجد أن من يتولون شأنها هم من تم تعيينهم في عهد نظام البشير منذ الانقلاب على الديمقراطية في 1989، ثم بدأ تسييس الأجهزة العدلية منذ ذلك الوقت بفصل الكفاءات من العاملين فيها واستخدام أصحاب الولاءات السياسية للنظام الحاكم والمستقطبين ووصلوا إلى المناصب الحساسة على رغم افتقارهم إلى التأهيل، وذلك من أجل أداء دور سياسي مرسوم لهم بعناية، الأمر الذي يؤدي بلا شك إلى إخراج هذه الأجهزة العدلية عن أطر مهماتها في التطبيق السليم للقوانين التي تحكم أعمالهم”.
وأردف حسن “ليس بعيداً ما كشفت عنه هيئة دفاع اللجنة التسييرية لنقابة المحامين السودانيين للرأي العام أن أحكام القضاء الصادرة باستعادة نقابات النظام السابق صدرت يوم جمعة وأن دوائرها تعمل في أيام الجمعة لإنجاز القرارات الاستثنائية، فأية فضيحة بجلاجل هذه وأي قضاء هذا”، مستدركاً “ما يمكن قوله إنه في ظل كل الأنظمة الديكتاتورية التي مرت على البلاد كان القضاء، وعلى رغم ما شاب بعض فتراته من سلبيات، محافظاً على القدر المعقول من الاستقلالية والنزاهة، أما الآن، فهناك عدد من منسوبيه يتولون رتباً أمنية وتأتيهم القرارات والتوجيهات من خارج دوائرهم العدلية لتنفيذها”.
ونوه بأن التردي الحالي في القضاء الذي ظهر جلياً في أحكامه لا ينفصل عن التردي الذي شمل كل الأجهزة العدلية وهو نتاج للتردي الموروث في جميع أجهزة الدولة منذ نظام البشير، واستمر في عهد حكومة ما بعد الثورة شاملاً جميع مفاصل الدولة، بالتالي فإن دولة فقدت سلامة أجهزتها العدلية لن يتوقف مسارها في اتجاه الفوضى.
وبين حسن أن “خطورة مآلات الأوضاع في ظل هشاشة الدولة، بخاصة من ناحية استغلال وإساءة استخدام الأجهزة العدلية والقضائية في الأغراض السياسية أنها ستؤدي إلى ما لا يحمد عقباه، وستكون البلاد لفترات طويلة مقبلة بلا مراكز قانونية مستقرة، فما تقضي به محاكم قضاء النظام الحالي لن يجد القبول لدى الجمهور الذي يراقب المحاكم ويمنحها الثقة والمشروعية، وطالما فقد هذه الثقة فلن تكون الأحكام مستقرة على المدى البعيد أو ذات جدوى”.
ردة كاملة
من جهته أفاد النائب العام الأسبق في السودان عمر عبدالعاطي بأن “ما يحدث في شأن المنظومة العدلية ينظر إليه من شقين، الأول سياسي، والثاني قانوني (عدلي) يشمل القضاء والنيابة العامة، فمن الناحية السياسية حصلت ردة كاملة على الثورة الشعبية وإزالة كل شيء أو أثر يتعلق بها، وفي جانب العدالة حدث انهيار تام خلال هذه الفترة، تحديداً منذ انقلاب 25 أكتوبر، وهو أمر مقصود ومخطط له ويتم تنفيذه بسبق الإصرار وهو توجه يسير لمصلحة النظام السابق، فلا يعقل أن تتعامل مع قضايا من اختصاص المحكمة الدستورية بموجب قرارات إدارية، وما يجري حالياً من ممارسات وتسييس للقضاء والنيابة العامة لم نشهده في أي عهد سابق حتى في فترة حكم البشير”.
إسماعيل محمد علي
إندبندنت عربية