صلاح الدين عووضة يكتب : غريب!
وما الغريب؟
ولا نقول ما الغريب إلا الشيطان..
فكل أمرٍ غريب فهو غريب؛ ولا علاقة للشيطان بغرابته..
وفي ماسبيرو صديقي محمد غريب..
وهو كان المستشار الإعلامي في سفارة مصر عندنا – هنا – بالخرطوم..
وأثناء زيارتي الأخيرة للقاهرة رن هاتفي برقمٍ غريب..
ثم صوتٌ بدا لي غريباً يعاتبني (إزاي يا راجل تيجي مصر وما أشوفكش؟)..
فإذا هو محمد غريب..
وذهبت إليه في ماسبيرو؛ وأرسل من يأخذني من الاستقبال إلى مكتبه..
وكان رسولاً ظريفاً… وغريبا..
فقد حيّاني بتحية عسكرية؛ ثم انزلق منبطحاً على البلاط قبل أن يُكملها..
وكان البلاط مغسولاً بالماء والصابون..
المهم إنني لم اكتشف قناة فضائية اسمها ماسبيرو إلا قبل أيام..
وتحديداً ماسبيرو زمان..
وتبث القديم من البرامج… والأغاني… واللقاءات..
ومن اللقاءات هذه واحدٌ مع ألمع نجوم الأدب… والشعر… والفلسفة..
وواسطة العقد طه حسين..
وكلٌّ منهم يسأل طه هذا سؤالاً من صميم اختصاصه..
فيرد عليها جميعا؛ فهو رجلٌ موسوعي… مثله مثل غريمه العقاد..
ومن أجمل ما قاله ضرورة الالتزام الذاتي للكاتب..
الالتزام بفكره… بنهجه… بقناعاته… بمبادئه… بكامل إرادته الحرة دون إملاء..
فإن أُملي عليه شيء صار منتوجه مُصطنعاً؛ مُتكلفاً..
ومن ثم فإن عليه أن يفقد احترامه لذاته من قبل فقده احترام القراء له..
وذلك إن بقي بداخله ضميرٌ يحس… ويشعر… وينفعل..
ضميرٌ به بقيةٌ من حياة… وحياء..
وعن العقاد هذا وجه إليه أنيس منصور سؤالاً..
ولكن قبل أن نأتي للسؤال هذا – وإجابته – نذكر شيئاً غريبا..
وهو الشيء الذي جعلني أردد في سري: غريب..
فقد كان هنالك نجيب محفوظ… ويوسف السباعي… وعبد الرحمن الشرقاوي..
ثم أمين يوسف غراب… وعبد الرحمن بدوي..
وبدوي هذا هو أستاذ الفلسفة الشهير؛ والمتخصص في الوجودية..
أما أمين غراب فلي معه قصة..
أو لي مع قصته الوحيدة التي قرأتها في حياتي قصة..
فقد أُعجبت بها – وبه – وتمنيت أنْ لو أجد المزيد من رواياته لالتهمها..
وأنْ لو أعرف المزيد عنه لأعرفه..
وكان ذلك قبل نحو ثلاثين عاماً بمدينة عطبرة؛ ولم أعد أعرف عنه شيئا..
ولكنه كان حاضراً في ذاك اللقاء؛ غريبة..
أما سؤال أنيس لطه حسين فكان عن رأيه في سلسلة عبقريات العقاد..
وما بين طه هذا والعقاد ما صنع الحداد..
إلا أنه لم يزد عن قوله: لا أستطيع أن أجزم برأيٍ فيها بما أنني لم أفهمها..
فهمهمت في سري: غريب؛ فأنا أيضاً لم أفهمها..
بل شعرت براحة نفسية؛ فإن كان طه حسين لم يفهم فكيف أفهم أنا..
وهو الذي ما كان يستعصي عليه شيء..
حتى أدب كافكا فهمه؛ وقد كان يُوصف بأنه غريب..
ثم من غرائب ذاك اللقاء أن الدخان كان يتصاعد من أفواه الحاضرين..
كانوا يدخنون؛ سيجارة من بعد سيجارة..
حتى أنيس منصور كان يدخن؛ وعاش كلٌّ منهم لما بعد الثمانين من الأعوام..
عدا السباعي الذي أُغتيل بقبرص..
أما غريبة الغرائب فهو التواضع الذي كانوا يتّسمون به جميعاً..
ثم تجنبهم ذكر أي كلمة أجنبية في أحاديثهم..
رغم أن أقلهم إلماماً باللغات يجيد أربع لغات عالمية..
باستثناء عبد الرحمن بدوي الذي اُضطر إلى ذكر مصطلحٍ فلسفي بالفرنسية..
وكذلك تحاشيهم الحديث عن ذواتهم..
والأهم من ذلكم كله أنهم كانوا يختصرون كلامهم إلى أدنى حدٍّ ممكن..
فجاء اللقاء سريعاً… رشيقاً… أنيقاً..
وقارنت بين اللقاء هذا… وبين لقاءات تُبث عبر شاشاتنا هنا..
وبين ضيوف ماسبيرو هؤلاء… وبين ضيوفنا نحن..
فتلخصت المقارنة في كلمة واحدة فقط..
غريب!.
صحيفة الصيحة