هل يكون أنبوب النفط السوداني خارج ساحة عرشه الأفريقي؟
تعمل الصين على الاستثمار في مربعات الإنتاج المتبقية في البلاد في ظل حاجتها للبترول
في بداية النشاط النفطي في السودان، كانت حكومة الرئيس السابق عمر البشير تقول “إن تكلفة النفط السوداني لن تزيد على ثلاثة دولارات للبرميل عند حقل النفط، وإذا أضيفت تعريفة النقل بخط الأنابيب البحري فإنها لن تتعدى ثمانية دولارات للبرميل للمستثمرين الأجانب الذين يرغبون في تسويقه للمنافسة العالمية”. وبعد حوالى عقد من خروج شركة “شيفرون” الأميركية من استكشاف وتنقيب النفط بسبب اندلاع حرب الجنوب الثانية وقيام المتمردين بالهجوم على مهندسي وعمال الشركة في جنوب السودان عام 1984، دخلت الصين بقوة في المجال النفطية.
وعلى رغم أن شركة “شيفرون” استثمرت حوالى مليار دولار في مجال التنقيب، وأكدت وجود أكثر من مليار برميل من الاحتياطي النفطي، إلا أنها باعت أسهمها إلى شركة “كونكورب” عام 1992 التي يملكها رجل الأعمال السوداني عبدالله جار النبي، وفي ما بعد إلى حكومة السودان، ذلك لأن “شيفرون” لم تقبل بيع امتيازها لحكومة السودان، وقبل أن تؤول الشركة لحكومة السودان، في عام 1993، نشبت خلافات عميقة بين مالكها جار النبي ووزراء الطاقة والمالية في حكومة السودان في ذلك الوقت، وضغطوا عليه بشأن تنازله عنها أو أن ينزعوا الامتياز. وسعى السودان إلى تطوير حقل “هجليج” النفطي، عام 1996، فقامت بهذا الدور شركة “أراكيس” للطاقة التي اندمجت تحت شركة “تليسمان” الكندية للطاقة لاحقاً.
واستحوذت الشركات الصينية على حصص كبيرة في أهم اتحادين نفطيين في السودان. وتأسست “شركة النيل الكبرى لعمليات البترول” وهي اتحاد شركات “كونسورتيوم” عام 1997 لتطوير المربعات التي تمّ اكتشاف النفط فيها، من شركة “النفط الوطنية الصينية” “سي أن بي سي” التي تملك حوالى 40 في المئة، وشركة “البترول الوطنية الماليزية” “بتروناس” بنسبة 30 في المئة، ثم شركة “النفط والغاز الهندية” بنسبة 25 في المئة، وقد حلت محل شركة “تليسمان” الكندية بعد خروجها من مسرح البترول السوداني، والشركة الوطنية السودانية “سودابت” بنسبة خمسة في المئة. وشاركت الشركات الصينية في اتحاد شركة “بترودار لعمليات البترول” التي تأسست في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2001، لتطوير مربعات أخرى.
تشييد الخط
وكان الشاغل الأكبر قبل توقيع الاتفاقية بين “شركة النيل الكبرى لعمليات البترول” وحكومة السودان، في الأول من مارس (آذار) 1997، هو تشييد خط أنابيب ناقل للنفط السوداني الخام من الحقول ومناطق الإنتاج في منطقة “هجليج” في ولاية جنوب كردفان المتاخمة لجنوب السودان، إلى ميناء بشائر في شرق السودان على البحر الأحمر، مروراً بمصافي التكرير في مدينة الأبيض ومنطقة الجيلي بالعاصمة الخرطوم.
وكان النظام السابق متحمساً لاستعادة عمليات التنقيب عن النفط، لأسباب عدة، منها إيجاد مصدر اقتصادي يدرّ أموالاً لترسيخ وجوده في الحكم والاستفادة من توجهه الاقتصادي شرقاً بعد أن أحسّ أنه كنظام إسلامي لن يكون مرضياً عنه في الغرب. وهذه العوامل هي التي كانت تنبئ باستمرار الشركات الصينية في ملء الفراغ الذي تركته شركة “شيفرون”، فبعد أن بدأت “الشركة الصينية” في تطوير حقلي “هجليج” و”الوحدة” النفطيين، شرعت في بناء خط الأنابيب الذي يبلغ طوله حوالى 1500 كيلومتر من حقول النفط إلى البحر الأحمر، عام 1996، كما أسهمت الصين في تشييد البنية التحتية اللازمة في السودان.
وبعد توقيع الاتفاقية، بدأت الشركة نشاطها في يوليو (تموز) 1997 في مربعات النفط بمساحة تُقدر بـ 50 ألف كيلومتر مربع، في ولاية جنوب كردفان وبطاقة إنتاجية 150 ألف برميل خام في اليوم. وفي مايو (أيار) 1999، أعلنت الشركة بداية الإنتاج النفطي في السودان. وبعد تشييد ميناء “بشائر” للتمكن من تصدير النفط السوداني إذ تم تجهيزه لتحميل ناقلات النفط بطاقة تحميل بين 600 ألف إلى مليون برميل في اليوم، أعلنت الحكومة تصدير النفط السوداني الذي أطلق عليه “مزيج النيل”، في 31 أغسطس (آب) 1999، ليُعلن دخول السودان نادي الدول المصدرة للنفط.
استمرار المفاوضات
وأوضح المدير العام الأسبق لمؤسسة النفط عبد الرحمن عثمان أن “الاتفاقية الخاصة بخط الأنابيب أعطت “الكونسورتيوم” الحق في تملك وتشغيل الخط لمدة 15 عاماً، أو حتى تحقق عائداً على استثمارها، ما أثار جدلاً في ما بعد بخصوص ملكية الخط التي كان يفترض أن تؤول إلى حكومة السودان، منذ عام 2009، وأن الشركات كانت تحصل على أموال ليست لها”. وأضاف عثمان، الذي كان أيضاً مستشار التحكيم في قضية النفط بين دولتي السودان وجنوب السودان “على رغم اللجوء إلى التحكيم في البداية، إلا أن العودة للمفاوضات المباشرة تمت وحسمت القضية بعد زيارة وزير الطاقة وقتها الزبير أحمد الحسن إلى بكين في مايو عام 2010″، وتابع “حددت حصة السودان بحوالى 70 في المئة بأثر رجعي منذ أغسطس 2006، وخلال الفترة من 13 أكتوبر 2006 إلى 13 أكتوبر 2010، والشركات الأعضاء في “كونسورتيوم شركة النيل الكبرى لعمليات البترول” حصلت على حوالى 500 مليون دولار منها 200 مليون دولار لشركة “النفط الوطنية الصينية”، و190 مليون دولار لشركة “بتروناس” الماليزية، و120 مليون دولار لشركة “النفط والغاز الهندية”.
ومع استمرار المفاوضات، وافق السودان على فصل تام على أساس التقييم الإقليمي للأصول وعلى تسويق منفصل، لكنه استمر في السعي للحصول على اتفاق بشأن جملة من الرسوم تكون قيمتها على الأقل ثمانية مليارات دولار على مدى خمس سنوات من أجل معالجة فجوته المالية الخاصة بميزان المدفوعات.
ثمن الانفصال
وجاء انفصال جنوب السودان في التاسع من يوليو 2011 من دون إبرام اتفاق بشأن النفط. ومع ذلك، لم يرغب أيّ من البلدين أن يكون مسؤولاً عن تعطيله، وعليه، اتفق الرئيس السابق عمر البشير مع رئيس دولة جنوب السودان سلفاكير ميارديت على أن يستمر إنتاج وتصدير النفط كالمعتاد، مع دفع جنوب السودان رسوم العبور بأثر رجعي حالما يتوصل البلدان إلى اتفاق
“أرامكو” و”شيفرون”
وقالت الباحثة لورا م. جيمس في دراستها “حقول السيطرة… النفط واللا أمن في السودان وجنوب السودان” “بدأت المفاوضات حول ترتيب مرحلي، لكن خشي الطرفان أن يؤسسا لسابقة تستند إليها رسوم عبور النفط عبر الأنبوب الذي يشق السودان من جنوبه إلى شرقه. بدأ السودان، الذي كان يرسل باستمرار فواتير أسست على تقدير 36 دولاراً للبرميل، يشعر بفقدان عائدات النفط، وتحولت الحكومة إلى الحصول على الدفعات بشكل عيني إذ بدأت تحمّل ناقلات النفط الخاصة بها بالنفط الجنوبي في ميناء بورتسودان”. وأضافت جيمس “اتخذت حكومة جنوب السودان في يناير (كانون الثاني) 2012 قراراً بإغلاق خط أنابيب النفط، رداً على تصرف السودان، مؤكدة سيادتها على حساب مواردها المالية التي اعتمدت على عائدات النفط بنسبة 98 في المئة”.
وبعد الانفصال، خرجت بعض مربعات الإنتاج التي كانت تابعة لشركات الإنتاج السودانية وفي مقدمها اتحاد “شركة النيل الكبرى” من الإنتاج السوداني إذ أصبحت جزءاً من الدولة الجديدة، واحتفظ السودان بمربعي إنتاج كانا مع “شركة النيل الكبرى”، ومربع آخر كانت تعمل به شركة “بترو-إنرجي”. وأصبحت الأخيرة أهم مصدّر لإنتاج النفط في البلاد حيث تنتج 60 ألف برميل يومياً تستخدمها مصفاة الخرطوم بشكل أساس لتلبية الطلب المحلي. وللتكيف مع هذا التحول، تم بناء خط أنابيب طوله 147 كيلومتراً عام 2012، لنقل النفط الخام عبره إلى مركز المعالجة المركزية في مدينة الفولة غرب السودان.
مصفوفة النفط
وفشلت المفاوضات التي توافق عليها الطرفان بدلاً من اللجوء للتحكيم الدولي في تفادي تدهور العلاقات، إذ هاجم المتمردون الجنوبيون حقل “هجليج” في أبريل (نيسان) 2012. ونتيجة للنتائج المترتبة على إغلاق حقول النفط، ما أدى إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية، ضغط بعض الوسطاء الدوليين لعقد اتفاق بين البلدين على المبادئ الرئيسة لصفقة نفط في الثالث من أغسطس 2012، ما مكّنهما من التوقيع على حزمة اتفاقيات في سبتمبر (أيلول) من العام نفسه. وحددت هذه الصفقة رسوم عبور منخفضة بحوالى دولار واحد للبرميل في وقت حددت رسوم معالجة وتعرفة نقل (كانت من قبل تدفع مباشرة للشركات) قريبة من المعدلات التجارية وذلك إضافة إلى مبلغ ثلاثة مليارات دولار عبارة عن ترتيبات مالية انتقالية مستحقة السداد للسودان من جنوب السودان على مدى ثلاث سنوات ونصف السنة، بمعدل 15 دولاراً لكل برميل نفط يتم شحنه من ميناء بورتسودان. لكن تلك الاتفاقيات لم تُنفذ على الفور انتظاراً للتحسن الأمني على الحدود. وعولجت المعضلة بالتوصل لاتفاق يقضي بتنفيذ متزامن لـ “مصفوفة النفط”، وكنتيجة لذلك، تمّ الشروع في إنتاج النفط من جديد في جنوب السودان في أبريل 2013، ووصل إلى السودان في مايو، وانطلقت أول شحنة نفط من ميناء بورتسودان بعد الانفصال في بداية يوليو من العام نفسه.
رسوم العبور
وفي كتابه عن إنتاج النفط في السودان “ملوك النفط الجدد”، قال لوك باتي إن “شركات النفط الصينية تكبدت أكبر خسارة منذ أن بدأت عمليات التنقيب الخارجية في تسعينيات القرن الماضي، وذلك بعدم مقدرتها في منع جنوب السودان من إغلاق إنتاجه في يناير 2012. وهذا يؤكد أن شركات النفط لا تستطيع، بالضرورة، مواجهة العواقب السياسية في بلد منقسم ولا سيما في الخطوط المتصدعة في حقول النفط”.
ووقعت دولة جنوب السودان، عام 2012، اتفاقاً مع إثيوبيا لبناء خط أنابيب لنقل نفطها إلى ميناء جيبوتي، على خلفية النزاع حول رسوم العبور. في ذلك الوقت، هيأت الصين نفسها على أن تتلقى تدفق النفط والغاز والمعادن في نقطة تصدير واحدة، ولذا، عملت على بناء المجمع البحري في جزيرة لامو الكينية على شواطئ المحيط الهندي. وتخطط على أن تسيطر من خلاله على التجارة والموارد الأفريقية، وتم الترتيب على أن “تبني أنابيب لنقل النفط من جنوب السودان يمتدّ عبر أوغندا وصولاً إلى الساحل الكيني، ومن أديس أبابا عبر مويالي كينيا لتلتقي في المنطقة الشرقية وتنتهي في مصفاة نفط ضخمة في بارغوني، قرب لامو، وسيتم دعم بناء خطوط أنابيب بالكامل من خلال شبكة طرق عابرة لأفريقيا من نيجيريا، غرب أفريقيا، ومن أنغولا جنوب غربي أفريقيا”.
وفي ظل حاجتها للنفط، تعمل الصين على الاستثمار في مربعات الإنتاج المتبقية في السودان، بما يمكّنها من الاستفادة من خط الأنابيب، لكنّ كل ذلك يعتمد على حسم قضية رسوم عبور النفط، وعائدات النفط بأثر رجعي، وقضية منطقة أبيي الغنية بالنفط والمتنازع عليها بين البلدين.
ومع الطفرة النفطية التي يشهدها شرق وغرب أفريقيا، فإن المنطقة ستحشد بخطوط أنابيب النفط الممتدة إلى موانئ التصدير. وفي أكتوبر الحالي، انطلق أطول خط أنابيب نفط حديث ليزيح خط النفط السوداني من عرش أطول الخطوط في القارة الأفريقية، من مدينة غايا جنوب غربي النيجر، ويبلغ طوله 2000 كيلومتر، ويخطط له إلى أن يربط آبار شرق مدينة أغاديم بمحطة التصدير في ميناء سيمي الواقع في دولة بنين.
مني عبد الفتاح
العربي الجديد