جعفر عباس يكتب.. سنوات أبوظبي وعوائدها
عملت في مؤسسة الاتحاد للصحافة لثمان سنوات وثلاثة أشهر، وتسنت لي خلالها فرصة الفوز بوظيفة مدرس لغة إنجليزية في معهد تابع لشركة ابوظبي للبترول (أدنوك)، ولكنهم قالوا لي إنني سأكون مطالبا أيضا بتدريس الرياضيات، فقلت لهم هذا فراق بيني وبينكم، وحاولوا تهوين الأمر علي بأن الأمر يتعلق فقط بمبادئ الرياضيات، فقلت لهم ان موقفي ضد الرياضيات مبدئي، وهكذا طارت وظيفة كانت مجزية للغاية
وتسنى لي في أبوظبي ترجمة كتابين عن صناعة النفط من تأليف وزير النفط الأماراتي د. مانع سعيد العتيبة، وكلفتني وزارة الإعلام بإعداد النسخة الإنجليزية لكتاب “شامل” عن جميع أوجه الحياة في الامارات، ثم جاءنا مدير تحرير انجليزية مقرم ومكحل بالشطة ومتزوج بإحدى حفيدات الزبير باشا، وكلفني بترجمة كتاب عن جغرافيا اريتريا من تأليف الزعيم الاريتري الراحل عثمان صالح سبي، وجاءت الضربة الكبيرة عندما كلفتني شركة اتصالات الإمارات بتعريب جميع سجلاتها، وأنجزت المهمة في سنتين، وبعائد تلك الصفقة شيدت بيتا في الحاج يوسف في بحري، ثم صرت المترجم الفوري المعتمد لدى وزارة الخارجية الإماراتية خلال ما يسمى بالموسم الدبلوماسي، الذي كان عادة ما بين نوفمبر ويناير من كل عام ويستضيف شخصيات برلمانية من بريطانيا وامريكا وغيرهما، وفتح ذلك امامي سوق الترجمة في مؤتمرات دولية مثل تلك التي كان المكتب الإقليمي لليونيسيف ينظمها، وقمت بالترجمة الفورية في مؤتمر لمنظمة هابيتات HABITAT الدولية المعنية بقضايا الإسكان والإيواء، في فندق حياة ريجنسي في دبي، وبعد ان قدم مندوب المغرب ورقته دار حولها نقاش، فكانت ردوده بالعامية المغربية، فجلست في كشك الترجمة الزجاجي “متبكما” فاستفسر رئيس المنظمة بإشارة من يده عن سبب توقفي عن الترجمة، فقلت عبر المايكروفون إنني مش فاهم أي حاجة، وأنه حتى الوفود العربية جالسة في انتظار الترجمة لتفهم كلامه، وانتهت الجلسة بضحكات مجلجلة
مثل معظم المغتربين السودانيين كنت بلا خطة أو مشروع: فقط ناكل ونشرب و”الزارعا الله بتقوم في شارع الزلط”، يعني كان راتبي بالكاد يكفي ضروريات الحياة، والمغترب السوداني يكون عادة مسؤولا عن أهل بيته في السودان، ومسؤولا أيضا عن دائرة واسعة من الأقارب وربما بعض الجيران، ولم يحدث طوال فترة إقامتي مع العائلة في ابوظبي-بسبب التقشف الاجباري- ان تناولنا وجبة في مطعم ولو من الدرجة الرابعة، وكانت الوجبة الوحيدة من خارج المنزل هي سندويتشات الشاورما على فترات متباعدة، ولم يكن عندي وقتها فائض مالي حتى لشراء دراجة، وفي سنتي الثامنة هناك اشتريت سيارة تويوتا كورولا جديدة، كانت فألا حسنا لأنني وبعد شرائها بشهرين حصلت على وظيفة في شركة الاتصالات القطرية
ارتبطت في أبو ظبي بعلاقات صداقة قوية مع عدد من أبناء الدولة، وأذكر ان زميلا في جريدة الاتحاد كان يضع رأسه على الطاولة نهار أحد الأيام فانزعجت وسألته: مالك؟ فقال: فيني النودة!! فسألته ان كان يريد مني ان أصطحبه الى المستشفى، فصاح منزعجا: وش فيك انت يا زول؟ هل عندكم مستشفيات فندقية؟ المهم عرفت منه ان النودة هي النعاس، وفي ذات عام أجريت عملية بواسير تغيبت بسببها عن العمل قرابة شهر، وعاتبت أصدقائي من دولة الامارات لأنه، ولا واحد منهم زارني خلالها فصاح أحدهم: انت ما تستحي على ويهك (وحهك) مسوي بواسير وتبغى الناس تزورك؟ عرفت ان الخليجي عادة يجري عملية البواسير بالذات خارج بلاده تفاديا للزيارات التي تتخللها “سؤالات”
جعفر عباس