عثمان ميرغني يكتب.. “بي بي سي”.. نهاية عصر الراديو التقليدي
بشكل مفاجئ؛ أعلنت أشهر إذاعة عالمية ”بي بي سي“ البريطانية توقف البث التقليدي عبر الراديو لحزمة من خدماتها بمختلف اللغات العالمية وتحولها لبث رقمي، مع نقل الأستديوهات والإنتاج الإعلامي إلى عواصم في الأقاليم المستهدفة بلسان الخدمة الإذاعية.
وكان من ضمن اللغات المتأثرة بالقرار الخدمة العربية، التي ستنقل كاملة إلى العاصمة الأردنية عمّان، مع استمرارها عبر الإنترنت فقط.
ورغم أن حيثيات القرار اقتصادية بحتة، والقصد المباشر التخلص من 382 وظيفة لتخفيف العبء المالي بتوفير حوالي 28 مليون جنيه إسترليني سنويًا، مع ضمور التمويل الحكومي الذي كانت تحصل عليه ”بي بي سي“، إلا أن الخطوة تبدو عكس اتجاه الرياح العالمية تمامًا.
كثير من الوسائط الإعلامية التي تبث بلغات أجنبية اتجهت، في السنوات الأخيرة، للبث باللغة العربية في الوسائط الإعلامية التقليدية ”شاشة التلفاز“، مثل فضائية عملاقة بحجم ”سي إن إن “ الأمريكية، فهل تعد خطوة ”بي بي سي“ إيذانًا بأفول نجم الإعلام واضمحلال الحاجة للإنفاق عليه؟
من القضايا الشهيرة في الحرب العالمية الثانية ماحدث للفتاة الأمريكية ”أكسيس سالي“، والتي كانت تدرس الدراما في جامعة ألمانية عندما اندلعت الحرب، فسحبت المخابرات الألمانية جواز سفرها حتى تمنعها من المغادرة، ثم أرغمتها على المشاركة في بث إذاعي استمر لسنوات موجه للجنود الأمريكيين تذكرهم بأن أسرهم تنتظرهم في أمريكا، وأنهم يخوضون حربًا لا علاقة لهم بها، فالحرب بين دول أوروبا وهي ليست موطنهم وألمانيا لم تعبر الأطلنطي.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، أُلقي القبض عليها وقُدمت للمحاكمة، في العام 1948، بتهمة الخيانة العظمى وحُكم عليها بالسجن 30 سنة، وكان الادعاء يعتمد على أن التأثير الإعلامي لرسائلها على الجنود أشبه بجيش كامل.
الإعلام كان واحدًا من أهم الأسلحة في تلك الحرب، ومن هنا جاءت أهمية ”بي بي سي“ لبريطانيا، فقد ظلت تنطق بألسنة 40 من شعوب العالم، ليس بأسلوب الدعاية النازية المباشرة ولكن بالرسائل الإعلامية التي تعتمد مبدئيًا على قدرة الوسيط الإعلامي في الفوز بثقة المتلقي.
وحتى اليوم بعد مرور 84 سنة منذ انطلاق ”بي بي سي“، لا يزال الإعلام واحدًا من أهم الأسلحة الإستراتيجية بل زادت أهميته مع تقلص الفوارق العسكرية بين الدول نتيجة انتشار التكنلوجيا والتوسع في التصنيع الحربي، بما يتيح للدول اقتناء أسلحة متقاربة من حيث التأثير التدميري.
يعتمد الإعلام في تأثيره على سلاح ”الحقيقة“ ليس بصورة مطلقة مجردة بل ”الحقيقة“ كما يريد صاحب الرسالة الإعلامية إقناع الآخرين بها، وأفضل مثل لذلك الحرب الروسية الأوكرانية الراهنة، عندما سقط أول صاروخ روسي على الأراضي الأوكرانية، في 24 فبراير 2022 الماضي، وجد أن ما ينتظره من كاميرات التلفزة العالمية أكثر من مضادات الصواريخ الأوكرانية، فكلا الفريقين يعتمد على بث رسائل إعلامية تصف ”الحقيقة“ من وجهة نظره ويظل المحك في إقناع المتلقي.
وعلى عكس ما قد يخطر في بال الكثيرين، خطوة “ بي بي سي“ تبدو في تقديري قفزة إلى الأمام لا إلى الخلف، تثبت الحاجة لتطوير الإعلام، فهي قراءة دقيقة لمستقبل وسائط الإعلام، ففي البيان الرسمي الذي صدر من إدارة ”بي بي سي“ قالت إن الإحصاءات أكدت أن أعداد المتابعين لخدمتها الإعلامية زاد أكثر من الضعف، منذ العام 2018، ولكن الزيادة ليست في الاستقبال بأجهزة الراديو التقليدية بل في مستخدمي الوسائط الحديثة عبر الإنترنت، فالغالبية خاصة من الشباب باتت تفضل الإعلام الرقمي على التقليدي.
وتقول ”بي بي سي“ أيضًا إن الرصد أكد رغبة المتابعين في التفاعل بدلًا عن التلقي من اتجاه واحد للمعلومات، وهو ما يفسر توسعها في البرامج التي تفسح مجالًا للتواصل المباشر مع المستمعين والمشاهدين، وكل ذلك لا يتوافر في خدمة الراديو التقليدية بل في الوسائط الحديثة عبر الإنترنت.
حاليًا؛ عالميًا يعتمد الإرسال الإذاعي الأرضي (المسموع في الراديو العادي) على تكنولوجيا الـ“FM“ وهي محدودة الرقعة الجغرافية لا يزيد بثها على دائرة نصف قطرها 60 كيلومترًا، بما يتطلب تكاليف مالية باهظة لإنشاء بنية تحتية للبث ممثلة في محطات إذاعية تنتشر في أكبر رقعة جغرافية.
و على سبيل المثال في السودان، رغم دخول ”بي بي سي“ قبل حوالي ربع قرن بموجات ”FM“ إلا أنها بالكاد تغطي 3 مدن فقط، وبقياس ذلك بتغطية على مستوى العالم فهي تكلفة باهظة صعبة المنال، وفي المقابل البث عبر الإنترنت بتكلفة منخفضة بدرجة لا تقارن.
كما أن الإعلام عبر الإنترنت يتيح تلقي المادة الإعلامية عند الطلب، بدلًا من الاستماع أو المشاهدة اللحظية في الوسائط التقليدية التي تتطلب حضور المتلقي لحظة البث.
من الواضح أن خطوة ”بي بي سي“ هي مجرد بداية لمرحلة انتقال هائلة من وسائط الإعلام التقليدية إلى الرقمية، خاصة مع اقتراب مرحلة التلقي المباشر للإنترنت عبر الأقمار الصناعية بما يتيح سرعات وجودة أعلى.
ويبقى المحك دائمًا في صناعة المحتوى، وهو الملعب الرئيس في تنافس الإعلام الحديث.
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز