ضعف الأجور في السودان يشعل الإضرابات ويشل المؤسسات
يشهد السودان هذه الفترة اتساع ظاهرة إضراب العمال والموظفين الحكوميين عن العمل في عديد من القطاعات الإنتاجية والخدماتية للمطالبة بزيادة الأجور في مواجهة ارتفاع كلفة المعيشة التي تفاقمت بشكل يصعب احتماله مع اشتداد الأزمة المالية الخانقة، وذلك نظراً إلى ما تعيشه البلاد من تقلبات سياسية وعزلة اقتصادية بسبب قيام قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان بتعطيل الشراكة مع المدنيين في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، ما اعتبرته دول ومؤسسات مالية دولية انقلاباً عسكرياً، فأوقفت ما وعدت به من مساعدات في شكل منح وقروض تقدر بمليارات الدولارات، وعلى أثر ذلك، فقدت الدولة السودانية 40 في المئة من إيراداتها، إذ جمد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ملياري دولار من المساعدات كانا بصدد تقديمها للحكومة الانتقالية، فضلاً عن تجميد واشنطن 700 مليون دولار، وشحنة قمح بحجم 400 ألف طن كانت ستقدمهما هذا العام.
وتأتي هذه الإضرابات في ظل غياب النقابات والاتحاد المهنية المنوط بها حماية حقوق العمال التي قام البرهان بحلها بعد سيطرته على السلطة في البلاد. وكانت الحكومة السودانية قد قامت مطلع فبراير (شباط) بزيادة الحد الأدنى للأجور من 3000 جنيه سوداني (ما يعادل 5.2 دولار)، إلى 12 ألف جنيه (20.8 دولاراً)، وذلك في محاولة لاحتواء آثار التفاقم المستمر للضائقة المعيشية والاقتصادية في البلاد، لكن ارتفاع معظم أسعار السلع الاستهلاكية الضرورية والخدمات بسبب الزيادة الأخيرة في تعرفة الكهرباء التي بلغت 484 في المئة لكل القطاعات السكنية والتجارية والحكومية والصناعية والزراعية، فضلاً عن تحرير سعر دقيق الخبز والمحروقات من بنزين وغازولين، كلها عوامل جعلت السوق تلتهم تلك الزيادات حتى قبل أن تصل إلى جيوب الموظفين، إذ أصبحت تعادل فقط 12 في المئة من حاجات أسرة تتكون من 5 أفراد.
معاناة مركبة
وبسبب هذه المعاناة المركبة جراء الفوارق الكبيرة بين الرواتب والأسعار رفع آلاف الموظفين والعمال على امتداد البلاد منذ مطلع العام الحالي عشرات المطالب المتعلقة بزيادة الأجور وتحسين بيئة العمل والحصول على الترقيات الوظيفية، لكن لم تجد تلك المطالب غير الوعود على الورق فقط، وأيضاً شفاهة من قبل المسؤولين. بعدها سارت فئات عدة في قطاعات مؤسساتية وعمالية في إضرابات عن العمل. فقد دخل العاملون في قطاع الكهرباء الثلاثاء 6 سبتمبر (أيلول) في إضراب مفتوح في مسعى إلى الضغط على السلطات لزيادة الأجور بعد أن فشلت مساع حكومية في إنهاء هذا الإضراب.
وعقد مديرو شركات الكهرباء اجتماعاً مع لجنة الهيكل الراتبي التي تتحدث باسم العاملين في قطاع الكهرباء من دون أن يتم التوصل إلى حلول، لكن تعهدت اللجنة المحافظة على استقرار الإمداد الكهربائي وضمان سلامة العاملين والمعدات، فيما يخشى كثيرون من تفاقم أزمة الكهرباء بعد تنفيذ هذا الإضراب في ظل وجود انقطاع يومي للكهرباء يستمر ساعات طويلة في القطاعات السكنية والتجارية والزراعية.
وأعلن أطباء الامتياز في البلاد الدخول في إضراب عن العمل، الأحد الـ11 من سبتمبر للمطالبة بصرف مستحقاتهم ورواتبهم، فضلاً عن معالجة مشكلات الأطباء الذين سقطت أسماؤهم سهواً من قوائم الأطباء المستحقين.
وسبق أن نفذ مئات العمال في ستة سدود سودانية خلال يونيو (حزيران) إضراباً عن العمل احتجاجاً على نقلهم من العمل في شركة التوليد المائي لوزارة الري والموارد المائية التي كانت السدود إحدى إداراتها وطالبوا بإعادة تبعيتهم للشركة مرة ثانية وبالامتيازات المالية السابقة التي حرموا منها.
وعلى الرغم من تعليق الإضراب بعد مفاوضات مع الإدارة خوفاً من التأثيرات السلبية على قطاع الزراعة فإن العمال أكدوا تكراره في حالة عدم الاستجابة لمطالبهم، كما نفذ في يوليو (تموز) أكثر من 4 آلاف عامل في شركة السكر السودانية إضراباً مفتوحاً عن العمل مع التلويح بإغلاق الشركة وإعلان العصيان في حالة عدم تنفيذ مطالبهم بصرف متأخرات رواتبهم، وكذلك انتظم العاملون في وقاية النباتات التي تتبع وزارة الزراعة في بورتسودان بإضراب عن العمل منذ أيام مطالبين بحقوقهم الوظيفية، مما تسبب في أضرار بالغة بالصادرات والواردات والتزامات المصدرين والموردين الخارجية لكونها الجهة المتخصصة بتنفيذ الإجراءات الصحية والفنية للصادرات الزراعية وواردات السلع والمنتجات الغذائية في البلاد.
حزمة سياسات
وأرجع المتخصص في مجال الاقتصاد السياسي في الجامعات السودانية حسن بشير محمد نور انتشار موجة الإضرابات إلى “انعدام الرؤية الحكومية وغياب الدولة في تولي أمور وشؤون البلاد من خلال إيجاد حزمة سياسات تعالج تلك الأوضاع الاقتصادية المختلة”. وكان أول هذه الإضرابات إضراب الأكاديميين في وزارة التعليم العالي، وحينها تمت الاستجابة لمطالبهم وتغيير الهيكل الراتبي، مما أحدث رد فعل لدى عدد كبير من الفئات العمالية الأخرى، ثم جاء إضراب العاملين في وزارة التعليم العالي غير الأكاديميين واستجابت الحكومة أيضاً لمطالبهم، بالتالي أصبحت هذه الإضرابات بمثابة عدوى بانتشارها في مختلف القطاعات.
وأضاف محمد نور، “صحيح أن الإضراب حق مكتسب من أجل المطالبة بزيادة الأجور، لكن نجد مثلاً أن إضراب قطاع الكهرباء المتواصل حالياً أخذ طابعاً خطراً جداً من وجهة نظري، إذ إن عدداً كبيراً من المواطنين وقطاعات إنتاجية عدة تضررت منه، ولحقت بها خسائر فادحة. فليس من المنطق أن تضع المواطنين رهائن، فلا بد أن يكون هناك جدول وإعلان مسبق وتدرج في الإضراب، لكن الإضراب بهذا الشكل يعد عملاً مشوهاً نظراً إلى تأثيره السلبي على المستوى الاجتماعي في البلاد”.
وتابع، “المسؤولية جراء هذه الإضرابات تتحمل الحكومة عبئها الأكبر لأنه لا يمكن إصلاح الأجور بالتجزئة، وهذا لا يحدث في أي دولة تنتهج سياسة اقتصادية واضحة المعالم والبرامج. وإذا استمرت الدولة في معالجة مسألة الأجور لكل فئة وفق هذا النهج، في ظل انعدام الموارد والإيرادات، فستتجه لا محالة إلى الاستدانة من البنك المركزي لتغطية نفقات هذه الأجور المرتفعة، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة التضخم إلى مستويات عالية، مما يجعلها تدور في حلقة مفرغة”، لافتاً إلى أنه سبق أن زادت الحكومة السودانية الأجور مطلع 2020، وكانت الزيادة كبيرة، لكن تزامنت هذه الخطوة مع تحرير سعر الصرف وحدوث موجة تضخم عاتية، مما جعل الأجور بعد فترة وجيزة متدنية جداً مقابل تصاعد الأسعار، وهو ما تسبب في دخول عدد من مؤسسات الدولة في الإضرابات المتواصلة. وأكد أن إصلاح الأجور يتطلب استقراراً سياسياً واقتصادياً وإيجاد إيرادات حقيقية وسياسات اقتصادية كلية فاعلة.
عمل إضافي
وبحسب عدد من الموظفين فإن الأوضاع الوظيفية سيئة للغاية، فلا يكاد الراتب الشهري يكفي الحاجات الأساسية لأي موظف مهما كانت درجته من مآكل ومشرب وكهرباء لفترة أسبوع واحد فقط، هذا من دون الدخول في المتطلبات الاستشفائية والدوائية والمدارس التي تستعد لفتح أبوابها. واعتبروا أن الوظيفة لم تعد مجدية، وأن غالبيتهم حتى أصحاب الدرجات العليا كالدرجة الأولى وغيرها، ضربتهم المعاناة والفقر، فيما اتجه كثير من الموظفين والعمال إلى البحث عن وظائف أخرى في القطاع الخاص أو عن عمل إضافي بعد ساعات العمل الرسمي، كسائق أجرة أو تحويل عرباتهم الخاصة إلى نقل الركاب والمشاوير الخصوصية وغيرها من المهن المتاحة. وطالب هؤلاء بضرورة إنهاء حالة المفارقات في الأجور بين مؤسسات الدولة، إذ يتمتع موظفون في مؤسسات أخرى تعرف بالمؤسسات الإيرادية برواتب تصل أربعة أضعاف رواتبهمن على الرغم من أنهم في الدرجة الوظيفية ذاتها، وهو ما أحدث مفارقات كبيرة في الأجور بين الموظفين في مؤسسات الدولة. وأوضحوا أن الوظيفة العامة أصبحت غير قابلة للتطوير في ظل واقع المرتبات المتدنية. فهناك كثير من الموظفين غادروا وظائفهم، وآخرون على وشك المغادرة، لكن الشيء الملاحظ أن الأداء انخفض بأكثر من 50 في المئة عما هو مطلوب.
راتب الوزير
وكان وزير المالية السوداني جبريل إبراهيم قد أقر في لقاء تلفزيوني بضعف أجور العاملين والموظفين في مؤسسات الدولة، قائلاً إن الراتب الشهري لا يكفي صاحبه ثلاثة أيام، وإن الدولة تجتهد لجعلها 12 يوماً، بينما أشار إلى أن راتب الوزير مضحك.
وقد شجع غياب النقابات التي تطالب بحقوق العاملين في السودان أصحاب العمل والمؤسسات الحكومية على تجاهل الاستجابة لمطالب العمال ومنحهم حقوقهم التي يكفلها قانون العمل، وقد منح قانون العمل السوداني الحرية الكاملة للعمال بالعمل في سبيل تحسين شروط الوظيفة وظروفها، ولم يمنع إضراب العمال ما دام الإضراب خاصاً بالعمال والنقابات، وهو ما سمح بدفع العمل النقابي في البلاد إلى الأمام. ويجد العمال السودانيون أنفسهم أمام رزمة من المشكلات والأزمات الاقتصادية والمعيشية الطاحنة، وتراجع الدخول أمام ارتفاع المصروفات اليومية عدا عن إجراءات الفصل التعسفي التي طاولت عشرات آلاف العاملين لدواع سياسية وإزالة التمكين في العامين الماضيين.
إسماعيل محمد علي
إندبندنت عربية