صلاح الدين عووضة

صلاح الدين عووضة يكتب : خرطوم زمان!!

زمان جداً..
زمان ما قبل المهدية..
زمان العهد التركي ـ المصري..
علماً بأن مصر نفسها كانت واقعة تحت الوصاية التركية… أو العثمانية..
تماماً كزمان الحكم الثنائي..
ففي ذاك الأوان كانت مصر – هي ذاتها – تحت الحكم البريطاني أيضاً..
وما كنت أعلم عن الخرطوم شيئاً في ذاك الزمان..
أو كانت – حسب قليل علمي – محض أكواخٍ… وزرائب… وأحراش..
وهي كانت كذلك فعلاً..
ولكن في زمان ما قبل زمان التركية السابقة… أو زمان الحكم التركي..
والفضل في معرفتي هذه الآن يعود إلى جارٍ مثقف..
فرغم إنه شاب إلا أنه متشبعٌ بثقافة جيلي – جيل زمان – في القراءة والاطلاع..
واسمه هيثم عبد الرحمن محمد الأحمر..
فقد أهداني كتاباً قيِّماً باسم تاريخ مدينة الخرطوم تحت الحكم التركي..
ومؤلفه هو الدكتور أحمد أحمد سيد أحمد..
وهو مصري الجنسية؛ وكتابه هذا عبارة عن أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه..
ومنه عرفت أصل كلمة الخرطوم..
فهي لا تعني خرطوم الفيل كما كنا نظن… وإنما كلمة مركبة بلغة جنوبية..
وقد تكون لغة الدينكا… أو الشلك… أو النوير..
وتعني مكان تجمع الماء؛ حيث كان يصل إليه مجموعات من أبناء الجنوب..
وذلك خلال تجوالهم بغرض الصيد..
أو – كما يقول المؤلف – الإغارة على قاطنيه من قبائل الشمال النيلي..
وقبيل المهدية كانت الخرطوم أشبه بمدينة متحضرة..
هكذا يقول المؤلف وهو يسرد جوانب كثيرة من أوجه مظاهر حضارتها..
فمنازلها أنيقة… وأسواقها منظمة… وحدائقها غنّاء..
بل لغالب بيوتها حدائق خاصة بها عملاً بتوجيهات السلطة القائمة آنذاك..
وشوارعها تُرش بالماء كل صباح..
وبلغ من شأن طرقاتها هذه أن كتب أحد الرحالة متمنياً رؤية مثلها بروما..
وكانت تعج بالفرق الغنائية… والمسرحية..
فضلاً عن وجود من يُسمون العوالم ممن يؤدين فواصل من الرقص الشرقي..
والموسيقى العسكرية تضج بأرجائها في المناسبات..
سواء مناسبات دينية… أو رسمية… أو اجتماعية… أو عند حضور قنصل..
فالخرطوم كان بها الكثير من قناصل الدول الغربية..
ونائب قنصل النمسا عند وصوله الخرطوم أولمت له بنت سلطان سنار..
أو ابنة آخر سلطانٍ لسنار..
فكانت وليمة فخيمة؛ إلى جانب الرقص… والغناء… وفواصل التمثيل..
وتحديداً التمثيل الكوميدي..
كما كانت هنالك مشافٍ عامة… وأخرى خاصة… وثالثة لأفراد الجيش..
ولكن ثمة ظواهر سالبة تَخلّلت هذه الإيجابيات..
وهي ظواهر مجتمعية في مجملها؛ منها الشذوذ الجنسي بين الشباب..
بل كانت هنالك جماعات مِثلية منظمة..
وكل جماعةٍ منها على رأسها زعيم؛ يجوس بأفرادها خلال الديار والأسواق..
ويعرضون أنفسهم على التجار… على عينك يا تاجر..
إلى جانب أماكن مرخصة للبغاء العلني؛ يشغلنها مومسات من دولٍ مجاورة..
ثم انهارت كل الحضارة هذه على حين فجأة..
أو على حين غزوة؛ حين غزت جيوش المهدية الخرطوم في عهد غوردون..
وخُربت معالمها… وبيوتها… وسراياتها..
وحُملت مواد بنائها إلى أم درمان من أجل تأسيسها كعاصمةٍ بديلة للبلاد..
وصاحب هذه الفكرة – حسب المؤلف – هو خليفة المهدي..
فلا تحضّرت أم درمان… ولا تُركت الخرطوم على ما كانت عليه من حضارة..
وهذا دأبنا في كل زمان… وإلى زماننا هذا..
نفلح جداً – تجاه بلدنا – في الهدم والخراب… ونعجز عن النهضة والبناء..
في كل زمان… ومن زمان..
زمان جداً!!

صحيفة الصيحة