سراج الدين مصطفى يكتب: تشويهات الكابلي على جسد سعاد (1)
محاولة للتذكار:
كغيري.. توقفت كثيراً في مسيرة الفنان الراحل العظيم عبد الكريم الكابلي .. فهو كان صاحب تجربة ملهمة تحتاج للتأمل والقراءة في تفاصيلها لأن التجربة الغنائية التي قدمها كانت تؤشر على فنان مفكر ومتجاوز لحال زمانه وأقرانه بثقافة موسوعية مبهرة.. وكل أغنية عنده عبارة عن مشروع فكري عميق التفاصيل والجذور .. وأغنية (سعاد) التي كتبها الراحل عمر الطيب الدوش هي واحدة من أعظم أغنيات الكابلي .. وبمثلما كان النص الشعري مختلفاً صاغ له الكابلي لحناً مبتكراً وحديثاً وقام بتصوير النص الشعري موسيقياً.. واليوم استعيد ذكرى هذا المقال الذي نقبت فيه عن الأغنية وبعض تفاصيلها الخافية.
الفنان المثقف:
لن أضيف جديداً لو قلت ان الفنان الراحل عبد الكريم الكابلي كان واحداً من مثقفينا الكبار.. فالرجل اخذ حقه ومستحقه في هذه الناحية.. رغم أن البعض ينحاز لفكره كونه مثقفاً أكثر من أنه موسيقي عبقري.. ولكن هذا يحسب له لا عليه.. والكابلي تميز بذائقة عالية في اختيار النصوص الشعرية التي يتغنى بها.. وبلا شك هي نصوص فيها الكثير من الرؤية والمغايرة ولعل دقته في الاختيار أضحت هي سمته الفنية الأبرز فتفوق بها على رصفائه الكبار امثال محمد الأمين ومحمد وردي وإن كانت عبقريتهم في التأليف الموسيقي ووضع الألحان تأخذ أبعاداً أوضح وأعمق مما جعلهم الأكثر شعبية وجماهيرية ونجوماً لشباك الحفلات التجارية، ولكن محبو الفنان الكابلي يكفيهم وصف انهم (صفوة) ومستمعون من نوع خاص لفنان اكثر خصوصية.
تغيير إيجابي:
معظم الأغنيات التي تغنى بها الكابلي او غيره من الفنانين.. يحدث بها تغيير طفيف من شكل كتابتها الأول.. وتقريباً لم تسلم أي أغنية من التعديلات التي فرضتها بعض الضرورات اللحنية.. وكم من أغنية نسمعها وحين نطالعها نصاً نجدها تختلف عن الذي سمعناها.. وكل ذلك بعيداً عن التدخل في الفكرة الأساسية لأي نص شعري.. أو تشويه شكل البناء الكتابي بالتدخل السافر الذي يخل بمضامين او محتوى النص أو بسلخ جلده تماماً بتلبيسه ثوباً آخر وشخصية جديدة.. وإذا توقفنا في بعض التغييرات الإيجابية كمثل التي حدثت في أغنية (لما الريد يفوت حدو) للحلنقي حينما كتب:
أنت ما عارف عيونك
لما (تنظر) وين بيودو..
ولكن الشاعر الكبير إبراهيم العبادي حينما كان في لجنة إجازة النصوص قال للحلنقي الشاعر الشاب وقتها، غيّر كلمة (تنظر) وضع بدلاً منها (تسرح) وأصبح المقطع بعد التغيير:
أنت ما عارف عيونك
لما (تسرح) وين بيودو..
وهكذا ارتفعت شاعرية المقطع وأصبح اكثر جمالية.. وهناك العديد لمثل تلك النماذج العلاجية التي ارتقت بالنص الشعري..
ضخامة الدوش:
صحيح ان شاعرنا الراحل عمر الطيب الدوش ورغم ضخامة اسمه أغنياته تكاد تعد وهي لم تصل في عددها إلى رقم كبير مثل أغنيات إسماعيل حسن أو إسحق الحلنقي.. ولكن رغم ذلك فأغنياته القليلة مثلت بعثاً وتفكيراً شعرياً جديداً في نمط كتابة الشعر الغنائي وهو الذي أسس لمشروعية الرمزية في الشعر وهذا المنحى اتضح في أغنيته الشهيرة (الود) التي يتغنى بها وردي، وحتى في تجاربه ما بعد الود مثل (الحزن القديم) (بناديها) (بفتش عن وطن) (الساقية).. كلها أغنيات تؤكد محاولات الدوش المستمرة في التكريس لشكل كتابي فيه قدر كبير من الاختلاف عن السائد.. وتكنيكه في الكتابة والاستفادة من تخصصه الدراسي في الدراما جعل القصيدة عنده عبارة عن مخطوطة فكرية محتشدة بالصورة والأخيلة والحبكة والسبكة والرواية التي تبدأ بالعقدة وتنتهي بشكل مفتوح من الأسئلة.
سعاد:
وعلى ذات نسق تفكيره ونمطه في الكتابة جاءت قصيدته البديعة (سعاد)، وهي نص شعري تتقاصر كل الكلمات أمامه فلقد جاء متكاملاً من حيث البناء والطرح واتسمت لغته بالبساطة العميقة والغنائية الدافقة.. وهذا ما جعل عبد الكريم الكابلي يحوله لأغنية وسيمة ومتقدمة بمقياس التأليف الموسيقي فهو وضعها على إيقاع الدليب وتركيب هذا الإيقاع جعلها أكثر خفة ورشاقة واستساغة.. وأغنية سعاد بشكل تأليفها الموسيقي الذي وضعه الكابلي تعتبر فتحاً جديداً.. فهو أدخل فيها (الحوار) ما بينه والكورال.. وهذا يتضح حينما يقول:
تككت في الراكوبة بالحنقوقة
سروالي الطويل (سويتلو) رقعات في الوسط..
فيرد عليه الكورال مجيباً ومؤكداً:
(سوالو) رقعات في الوسط
وهكذا يمشي البناء النغمي للأغنية .. وأضاف الكابلي شكلاً آخر غير معهود في التأليف الموسيقي حينما ترجم الفكرية الكلامية لنغم يبدو وكأنه محسوس أو ما يعرف بالتصوير الموسيقي وهذا يتضح في:
لو كل زول في الحلة
بالسترة انجلد..
وهو حينما يردد هذا المقطع اثناء الأغنية.. نجد أن آلة (الكي بورد) تجسد صوت (الصوط) كتأكيد على حالة الجلد.. والكابلي تحسس هذه الجزئية من النص جيداً وتفهم أبعادها الدرامية.. فكانت الموسيقى المصاحبة تعبر عن الموقف تماماً وهذا يمكن أن نطلق عليه فن الرؤية عبر الأذن.
تدخلات سافرة:
في تقديري أن البناء اللحني للأغنية جاء بديعاً وفي غاية الإدهاش وفيه ثمة أشياء موسيقية جديدة غير مألوفة للأذن السودانية.. ولكن الأستاذ الكابلي كانت له تدخلاته السافرة على شكل النص وكتابته وقام بسلخ جلده تماماً حتى أصبح مسخاً مشوهاً لنص سعاد في حالته الأولى التي كتبه بها شاعرها الطيب الدوش.. ولم تبق إلا بعض الملامح التي تؤشر على أن هذا النص هو من نظم الدوش.. والتغييرات السالبة التي أحدثها الكابلي في جسد النص لا تعد.. فهو أحدث فيه ثقوباً لا يمكن رتقها.. والقصيدة بعد أن تغنى بها لا ينقصها شئ سوى ان يقول إنه كاتب هذا النص المسمى سعاد.. ولو قال ذلك لصدقناه لأن ما تغنى به لا يعبر مطلقاً عن الدوش ولا عن قصيدته.
بداية التشويه:
بدأ الكابلي تغييراً بسيطاً .. حيث أبدل بعض الكلمات:
في خشمي ختيت القميص
أجري وازبد شوق وأنط
لامن وصلت الحفلة شقيت الخلوق.
ولكن النص الأصلي يقول:
في خشمي عضيت القميص
أجري وأزيد شوق وأنط
لامن وصلت الحفلة زاحمت الخلوق.
وفي موضع آخر كان التغيير مخلاً ومعيباً ومشى عكس تفكير الشاعر.. والذي كتبه نصاً:
وركزت للحرقة المشت فوق الضلوع
تحت الجلد.. ضميت قزازتي مرقت عند طرف البلد
وسكرت جد.
والكابلي يغنيه كالآتي بعد التغيير:
لميت مشاعري مرقت عند طرف البلد
وودرت جد.
في تلك الجزيئة قد تكون لفناننا الكابلي رؤيته التي نقدرها ونحترمها ولكنه لا يملك حق هذا التحوير والتبديل.. لأن الفكرة التي أراده الدوش من تلك السطور انمحت معالمها تماماً.. وهي رغم جرأتها واحتشادها يعتريها ما لا يمكن التصريح بها وضوحاً.. وهذا ـ بتقديري ـ يرجع للتركيبة الاجتماعية السودانية التي بها الكثير من الحياء والمواربة.
أعمق توصيف للفرح:
قصيدة سعاد حفلت وحملت في ثناياها أجمل وأدق تعابير وتوصيف للفرح.. وكسر به الدوش شكل التعابير العادية وخرج به لفضاء ارحب واكثر اتساعاً.. وهو ارتقى لأعلى قمم الشعر حينما كتب:
وأنا جاي راجع منتهي.. لاقتني هي
قالت لي تعال..
كبرت كراعي من الفرح
نص في الأرض.. نص في النعال
اتلخبط الشوق بالزعل
اتحاورو الخوف والكلام..
تباين أيديولوجي:
تلاحقت التشويهات التي أحدثها الكابلي في جسد (سعاد) وهي تتصاعد وتزداد كلما توغّلنا أكثر في تضاعيف النص.. لأن العمليات الجراحية التي أجراها اذا كانت موفقة في بعض المقاطع فهي مخلة تماماً في مقاطع أخرى.. والاختلالات تبدو واضحة في هذه الجزئية:
مسؤول كبير زاير البلد
قال لينا.. وكت الزول يجي،
لازم تقيفوا صفوف صفوف
وتهيجوا الخلا بالكفوف
وتقولوا عاش يحيا البطل
صلحت طاقيتي الحرير واتنحنح الحشا بالكلام
ورميتو من حلقي الوصل.. قت ليهو يا عمدة اختشي
مسؤول كبير في الدنيا غير الله انعدم.
لم يكن الكابلي موفقاً في رؤيته لهذا المقطع فهو ضيق من معانيه الوساع وهي كانت أكثر احتمالاً وهذا يتضح في قوله:
مسؤول كبير في الحلة غير الله انعدم
والتناقض المعيب يبقى في كلمتي (الدنيا) و(الحلة) وهذه هي الفجوة في التفكير ما بين الشاعر والمغني.. واتضحت الرؤية بين ما يريد أن يقوله الدوش، وما بين الكابلي.. ولعل اختلاف المدارس الإيديولوجية ما بينه والدوش قاد لهذا الشكل المعيب من التبديل والتغيير.. ولو أن شاعر سعاد عمر الطيب الدوش كان حاضراً بينناً لما سمح لعبد الكريم الكابلي أن يتغنى بها بوضعيتها الراهنة.
صحيفة الصيحة