منى أبو زيد تكتب : كيس البُن..!
“في مجال الملاحظة لا تنحاز الصدفة إلا إلى الذهن المُستعد”.. لويس باستور..!
ما زلت تحت تأثير حكاية لطيفة أمسكت على بساطتها بتلابيبي وصفعت دلالتها روحي، فأحببت أن أشارككم بها. في ظهيرةٍ ماطرةٍ، خرجت لشراء بعض الأغراض من سوبر ماركت قريب، فوجدت أن بعضها قد نفدت من عنده. ومع أن البُن المسحون لم يكن ضمن أولويات قائمة الأغراض لكنني لسبب لا أدريه، قرّرت أن اشتريه. حملت كيس البُن وعدت إلى البيت قبل أن أقصد محل بيعٍ آخر في طرف الحي. لكنني ولسببٍ غامضٍ أيضاً، خرجت من البيت وأنا أقبض على كيس البُن مع محفظة النقود..!
المشي بين جُزر الطين التي كانت مياه الأمطار تحدها من جميع الجهات لم يكن سهلاً، والحكمة كانت تقتضي أن أسلك طريقاً أبعد تجنُّباً لشرور الانزلاق والسقوط الذي حاق بمعظم الذين تعجّلوا شرف العبور. وفي منتصف الطريق – بمُحاذاة فرن العيش تحديداً – سمعت صوت صياح مُفاجئ ورأيت أناساً يهرولون نحو باحة بيت أحد الجيران الذي خرج من فتحة بابه الموارب صبي لاهث الأنفاس، كان يحمل قضيباً معدنياً وعلى وجهه ملامح الغضب والخوف في آنٍ معاً..!
من موضع قدمي القريب على الطريق المُوحل، سمعت رفيقاً له يُعاتبه على الغدر بصبي آخر خمَّنت أنه صاحب الصياح، وفهمت من الحوار اللاهث أن الصبي الغاضب قد عاجل الصبي الآخر بضربة من تلك “الحديدة” – التي كان يحملها – فوق جبينه..!
كنت أجد المسير نحو السوبر ماركت وأنا أفكِّر بعواقب عراك الصبية التي لا تنتهي عندما عبر بجانبي الصبي المغدور وعلى رأسه جرحٌ يقطر دماً ومن خلفه بعض رفاقه الذين كانوا يستوقفونه في هلعٍ وإلحاحٍ، وبعضهم كان يصيح في خوف وارتباك “بُن، يا جماعة شوفوا ليكم بُن”. كنت قد حاذيتهم تماماً – في تلك اللحظة – فمددت يدي إليهم بكيس البُن، فتلقّفه أكبرهم سناً وسكب نصفه على جرح رفيقه قبل أن يضع كفّه عليه برفقٍ..!
وبينما كان الصبية يهرولون إلى أقرب جهةٍ إسعافيةٍ، وقفت هنيهة أفكِّر، لهذا إذن كان شراء كيس البُن قراراً غامضاً ومُفاجئاً، ولهذا أيضاً كان خروجي به من البيت وحمله طوال الطريق في رحلتي الشاقّة المُوحلة نحو أقرب شارع أسفلت. كنت ساعتها رسولاً يؤدي مُهمّته في إيصال كيس البُن إلى مَن يحتاجه. لقد جعلني الله – على بساطة ذلك الموقف – سبباً لإيقاف نزيف ذلك الجرح، فأسعدني بذلك..!
صحيفة الصيحة