“الشربوت” مشروب عيد الأضحى الحلال عند السودانيين
على الرغم من الجدل الذي لا يتوقف على وسائل التواصل الاجتماعي مع إطلالة عيد الأضحى في السودان حول مدى حرمة ومشروعية مشروب “الشربوت”، وهو عصير البلح الشعبي المعالج بعناية الذي يفرض نفسه على مائدة العيد الأضحى ما دفع بعضهم أن يصفه مجازاً بأنه “خمر عيد الأضحى الحلال في السودان”. فإن كثيراً من الأسر السودانية درجت على تصنيعه منزلياً أو شرائه جاهزاً من بعض المحال، كجزء من الاستعدادات الضرورية للعيد.
في كل عام ينتصر الشربوت على الحملات التي تناهضه في سياق المقولة الساخرة المتداولة “عجيب أمر السودانيين يصومون يوم عرفة ثم يكادون يسكرون يوم العيد”، وعلى الرغم من ذلك يتربع مثل كل عام على مائدة العيد متلازماً مع الخروف، وشريكاً أصيلاً قادماً من جوف التاريخ.
يبدأ إعداد الشربوت، الذي لا يطيب عيد معظم السودانيين من دونه، قبل يوم أو يومين من المناسبة كتقليد ضمن طقوس موروثة منذ زمن بعيد، وعادة تتعدى العيد إلى مناسبات الأفراح في مناطق عدة شمال السودان على وجه الخصوص، كمهضم لدسم اللحوم ومؤانس لتجمعات الأهل والأصدقاء.
غالباً ما تكون مدة تصنيع الشربوت قصيرة جداً، تقصيراً لفترة تخميره حتى لا يتحول إلى شراب مسكر، وتفادياً للدخول في شبهة التحريم، ويتم ذلك وفق تقديرات المهارة الشخصية في عملية التصنيع بالتحكم في درجة ونسبة المقادير اللازمة.
يعد البلح هو المكون الأساس إلى جانب مجموعة بسيطة محسوبة من البهارات، مثل الحبهان والقرفة والزنجبيل وقليل من الخميرة، أما مهمة عملية التصنيع فغالباً ما تطلع بها الأمهات أو الجدات داخل الأسرة، فهن الأكثر معرفة بتفاصيل صنع هذا المشروب العتيق.
هكذا يصنع
تقول سامية محمد بشير، ربة منزل (61) سنة، “يبدأ التحضير لصناعة الشربوت بغسل البلح ثم غليه على النار، ثم تضاف إليه مقادير محسوبة من البهارات المحددة، ثم يوضع المزيج داخل إناء واسع لتبدأ عملية تخمر محدودة يتم التحكم فيها من خلال ضبط كمية الخميرة المضافة مسبقاً إلى المحتوى”.
تضيف، “خطوة التخمير ومدتها هذه هي التي تمثل مثار الجدل، إذ يتم إغلاق الإناء بإحكام ولا يفتح إلا بعد يومين أو ثلاثة على الأكثر، لدواعي تمازج عناصره وتخمره، ثم تتم تصفيته الخليط بمصفاة ناعمة للتخلص من بعض الرواسب ويعبأ المشروب في أوان أو قوارير متوسطة ويوضع في الثلاجة للتبريد ويقدم للشرب بارداً”.
015.jpg
يصنع الشربوت من عصير البلح الشعبي المعالج بعناية (اندبندنت عربية – حسن حامد)
توضح ربة المنزل، “أنها تعلمت صناعة الشربوت من والدتها، في معظم المناسبات بخاصة أفراح الأسرة وعيد الأضحى، وهي تصنع كمية متوسطة تكفي حاجة الأسرة وتعرض جزءاً منه للبيع لتغطية تكاليف التصنيع بخاصة مع الارتفاع الكبير في أسعار البلح المكون الأساس للمشروب، إذ تكلف كمية البلح فقط لصنع مشروب لأسرة متوسطة نحو 9000 جنيه سوداني (16 دولاراً أميركياً)”.
جذور بعيدة
يرجع الباحث في تاريخ السودان القديم، عباس أحمد الحاج، أصل ومنشأ الشربوت إلى “ممالك شمال السودان النوبية القديمة التي انتشرت قبل آلاف السنين على ضفاف نهر النيل حيث تمتد بساتين نخيل البلح، وهو مشروب اشتهر به قدماء النوبة في شمال السودان وتحول إلى تقليد وطقس ثقافي عم أنحاء البلاد يتناوله جميع الفقراء والأغنياء والصغار والكبار من دون تمييز”.
يوضح الحاج، لـ”اندبندنت عربية”، أن “الشربوت كان يستخدم كمشروب من عصير التمر منذ عهد مملكة مروي كشراب مفيد له قيمة غذائية عالية، من دون تركه أن يتخمر بما لا يتجاوز الثلاثة أيام حتى وهو بذلك غير مسكر، وقد عرف أهل مملكة مروي بقدرتهم الفائقة على تصنيع الأغذية وخبرتهم ومعرفتهم الجيدة ماذا يأكلون وكيف يصنعونه وفوائده”.
يضيف الباحث في التاريخ القديم، “لما كانت المنطقة شمال السودان مشهورة حتى اليوم بإنتاج البلح وأشجار وبساتين النخيل بأنواعه المتعددة، فقد استنبط أهل تلك المملكة هذا العصير (عصير البلح) المسمى حالياً بالشربوت وفي الغالب فإن طريقة التحضير والانضباط بمقادير المكونات وعدد أيام التخمير هي التي قد تحدد حرمته من عدمها، لأن زيادة التخمير هي التي تتسبب في تفاعل المكونات وهي المتحكمة في وجود مقدار نسبة من الكحول فيه”.
يشير الحاج إلى أن “الشربوت لم يكن وقتذاك وحتى الآن شراباً خاصاً بفئة معينة، بل يتناوله عامة الناس، لكنه ارتبط بالمناسبات المصحوبة بالولائم لأنه يساعد في عملية الهضم ويسرعها كونه يرفع نسبة الحموضة في المعدة، بالتالي فهو يحفز عملية الهضم بعد تناول كمية كبيرة من اللحوم، وهو يتفوق في ذلك على المشروبات الغازية المنتشرة حالياً، فضلاً عن أنه مشروب صحي ومستساغ الطعم، وما زالت مناسبات الأفراح شمال السودان يصنعونه بكميات كبيرة ويقدمونه للضيوف في أفراحهم”.
تطور وتجارة
مع إيقاع الحياة المتسارع لم يسلم مشروب الشربوت من موجة التطور والحداثة، بدأت بعض المطاعم ومحال بيع التمور الكبيرة تصنيع عينات تجارية منه في عبوات متفاوتة الأحجام لتخرج به من دائرة التصنيع التقليدي المحلي داخل البيوت بواسطة الأمهات والجدات ربات البيوت، ليتوسط المشروبات الأخرى في ثلاجات العرض في بعض المحال والمطاعم.
لكن تحت ضغط تدهور الظروف الاقتصادية وارتفاع تكاليف المعيشة انتقل المشروب المصنوع تقليدياً إلى سلعة تباع وتشكل مصدراً موسمياً للدخل لبعض الأسر التي تجيد صناعته وعرضه جاهزاً للبيع في عبوات مختلفة قبيل العيد بأيام قليلة بخاصة لمن يرغبون في تناوله ولم تمكنهم ظروفهم ومشاغلهم من صناعته في المنزل.
متلازمة “الشربوت والخروف”
يدافع كثير من السودانيين عن هذا المشروب المرتبط بعيد الأضحى ومناسبات الأفراح بكونه ليس إلا عصيراً مفيداً فيه كل فوائد البلح بعد أن تتحول إلى تركيبة سائلة طيبة المذاق.
يقول محسن عبد العظيم، طالب جامعي، إن “الشربوت والخروف عندنا هما متلازمة عيد الأضحى، به تكتمل الفرحة، وهو مشروب بريء من اتهامات بعض الذين يغالون في أحكامهم الفقهية، لكن هناك أيضاً من الشيوخ من لا يرى فيه سوى شبهات لا تحرمه وهناك من يحلله بصورة واضحة”.
يضيف أنه “تعرف على هذا المشروب منذ طفولته الباكرة، مثله مثل أي عصير ارتبط بمناسبات معينة، وهناك مثله بعض المشروبات الأخرى التي ارتبطت بوجبات اللحوم المشوية تحديداً، مثل (الغباشة) التي هي خليط من المياه الغازية المصنعة والزبادي أو اللبن الرائب، بعد أن تخلط جيداً معاً، ولها قدرة كبيرة في المساعدة على الهضم وتفادي التلبك المعوي أو حدوث تخمة أو انتفاخ”.
ولا يقتصر تناول الشربوت على عمر أو فئة أو جنس فهو مشروب أسري يتناوله الرجال والنساء والشباب والصغار والكبار أيضاً، لذلك فهو يحتل مكانه وسط مائدة العيد مع المشروبات الغازية الأخرى، وتصفه نسرين عبد الرحمن، بأنه “منعش وراقٍ ومفيد يختلف في مكوناته الطبيعية الخالصة”، ولا ترى “أي غضاضة في تناوله بأي كمية، وهو أحد المشروبات التي يمكن الاستمتاع بها خلال أيام العيد بخاصة إذ كان محضراً بطريقة جيدة”.
أما الحديث عن كونه حراماً أم حلالاً فلا ترى له مكاناً لأن “العيد مناسبة دينية عظيمة ومقدسة ولا يمكن أن يتجرأ أحد بإفسادها بشيء محرم، والسودانيون متدينون بطبعهم في كل الأحوال، وإن حسن النية يتبقى هو الأصل في التعاطي مع مشروب الشربوت، وكما يقول المثل السوداني (النية زاملة سيده) أي دليله وقائده، وإنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، ولا ينوي السودانيون إلا الخير والابتهاج بالعيد الذي هو فرحة وتواصل وتراحم”.
إندبندنت