ارتفاع قياسي لأسعار الأدوية في السودان… والجهر بالآلام لمن يملك المال
يعجز كثير من السودانيين عن شراء الأدوية المهمة في ظل الارتفاع المتسارع في أسعارها، حتى أضحى الجهر بالأوجاع مرهونا بتوفر المال، بينما لا تلوح في الأفق أي بوادر لتسكين هذه الآلام في ظل استمرار انهيار الجنيه السوداني أمام الدولار وتردي الأوضاع الاقتصادية للبلد المضطرب سياسياً.
ولم يعد التغيير الذي أحدثته الصعوبات الاقتصادية والمعيشية يقتصر على أنماط استهلاك الغذاء وشراء الاحتياجات الأساسية في السودان، وإنما طاول أيضا الدواء، إذ يضطر الكثيرون من أصحاب الأمراض لا سيما المزمنة إلى التخلي عن شراء بعض الأدوية لصالح توفير المال للمرض الأكثر خطورة على حياتهم، كما يلجؤون إلى الشراء بنظام تجزئة العبوة حسب مقدرتهم الشرائية.
وفي خضم التبريرات المختلفة لصعود الأسعار من جانب الصيادلة والعاملين في قطاع صناعة الدواء واستيراده، يبقى المريض وحده في مواجهة عدم القدرة على مواكبة هذا الغلاء وتحمل الأوجاع. ويقول مواطنون إن أسعار الدواء أضحت تفوق قدرات الكثيرين.
ولا ينكر الصيادلة هذا الواقع، لكنهم يرجعون قفزات الأسعار إلى ارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه.
ويقول الصيدلي حبيب الله التوم من العاصمة الخرطوم إن الشركات المحلية التي تصنع الدواء زادت أسعارها بنسبة 30% على اعتبار أنها تستورد المواد الأولية من الخارج، كما أن الأدوية زادت أسعارها بنسبة تتراوح بين 20% و30%، وهذه الزيادة شملت جميع الأصناف ومنها المنقذة للحياة. ويضيف التوم لـ”العربي الجديد” أن “الدواء متوفر ولكنه ليس في متناول أيدى الجميع”.
اشتداد الأزمة الاقتصادية والمالية دفع الكثير من المواطنين إلى شراء الأهم ثم المهم والتركيز على الأولويات فقط دون غيرها وهذا ينطبق أيضاً على الأدوية، حيث إن الزيادات جعلت المواطنين يشترون أدويتهم بالتجزئة حسب مقدرتهم وظروفهم الاقتصادية، وفق التوم.
زيادة رسوم تسجيل الأدوية
بدوره، يرى محمد إبراهيم صاحب صيدلية في الخرطوم، في تصريح لـ”العربي الجديد”، أن الأسعار ستواصل الصعود في ظل القرارات الحكومية التي ترمي إلى زيادة الرسوم، مشيرا إلى قرار المجلس الاتحادي للصيدلة والسموم القاضي أخيراً بزيادة رسوم تسجيل وفحص الأدوية والمعدات والمستلزمات الطبية بنسبة 1000%، فضلا عن تحرير سعر دولار الدواء.
وقال عضو تجمع الصيادلة المهنيين عوض عبدالمنعم في تصريحات صحافية أخيراً، إن “مشكلة الدواء في البلاد مشكلة سياسات وترتيب أولويات بالنسبة لكل الحكومات منذ النظام البائد (نظام عمر البشير) مروراً بحكومات عبدالله حمدوك وأخيراً وليس آخراً حكومة انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021″، في إشارة إلى ما نتج عن انقلاب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان على الحكومة الانتقالية.
وفي مقابل الصورة القاتمة لأوضاع المرضى والتوقعات المتشائمة للصيادلة حول عدم وجود انفراجة قريبة للأزمة يقول مسؤولون حكوميون إن الجهات ذات الصلة تعكف حالياً على حزمة معالجات لتخفيف آثار سعر الصرف على قطاع الدواء، وكذلك تخفيف تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا التي تأثر بها العالم برمته.
ويشير المسؤولون إلى أن الحرب الروسية ألقت بظلال سلبية على مستقبل استيراد وتصنيع الأدوية في الكثير من الدول ومنها السودان، مشيرين إلى أن أسعار شحن الأدوية براً وبحراً زادت بنسبة 400%، فضلاً عن ارتفاع أسعار المواد الأولية المستخدمة في صناعة الأدوية الوطنية، وهذا أثر على زيادة أسعار الأصناف المنتجة محلياً بنحو الثلث.
لكن صيادلة يؤكدون أن سوق الأدوية تقلص كثيراً بالأساس قبل سنوات من الحرب الروسية، كما أن أزمة تهاوي سعر العملة الوطنية أمام الدولار مستمرة منذ أكثر من ثلاثة أعوام. وتقلص عدد الأصناف المتداولة في السودان إلى أقل من 1000 صنف، مقابل 3800 صنف في 2014. ومنذ أغسطس/آب الماضي توقف الدعم المباشر للأدوية المزمنة، ما أدى إلى دخول الأدوية المهربة بأسعار مرتفعة.
تحرير الدولار الجمركي
وطبقت الحكومة الانتقالية في السودان في 28 يونيو/ حزيران الماضي تحريراً كاملاً للدولار الجمركي بزيادة أسعاره من 28 إلى 430 جنيهاً.
وقفزت معدلات التضخم إلى مستويات قياسية وسط تراجع القدرة الشرائية للعملة المحلية. إذ أعلن الجهاز المركزي للإحصاء، في إبريل/ نبسان أن معدل التضخم السنوي ارتفع إلى 263.16% في مارس/ آذار مقابل 258.4% في فبراير/ شباط.
ويئن السودانيون تحت وطأة أزمة اقتصادية منذ ما قبل إطاحة الرئيس عمر البشير في 2019. ووعدت دول مانحة بمليارات الدولارات خلال فترة الحكومة الانتقالية، لكن ذلك توقف في أعقاب انقلاب البرهان.
وما زالت الحكومة تعتمد نسبة الفقر السابقة (46.5%) لآخر إحصاء أجري في العام 2009، ولكن خبراء اقتصاد يرون أنها ارتفعت إلى أكثر من 80% طبقا للواقع الذي يعيشه السودانيون.
الدواء في السودان: المرضى يعانون في المشافي والصيدليات
وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أنه في 2021، كان 56% من سكان السودان البالغ عددهم 44 مليونا يعيشون على أقل من 3.2 دولارات، أي حوالي ألفي جنيه سوداني، في اليوم ارتفاعا من 43% في عام 2009.
وفي ظل عدم توفر العديد من أصناف أدوية الأمراض المزمنة، يلجأ مواطنون في كثير من الأحيان إلى اللجوء للمغتربين لتوفيرها أو عبر إرساليات من مصر والتي تأتي عبر الحافلات، في حين أن الأدوية تحتاج إلى درجة حرارة محددة حتى لا تتعرض للتلف.
وبجانب ارتفاع الأسعار وفرض رسوم جديدة على قطاع الأدوية ودخول الدواء المهرب، أكد رئيس الجمعية السودانية لحماية المستهلك ياسر ميرغني، ارتفاع نسبة التجاوزات من قبل الشركات العاملة في القطاع عقب انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وأوضح ميرغني، في تصريحات صحافية أخيراً، أن بعض الشركات الموردة تتعمد زيادة مدة صلاحية الدواء وتغيير العبوة، مشيراً إلى أن تاريخ صلاحية الدواء يكون ثلاثة أعوام من بلد المنشأة لكل الدول عدا السودان يكون أربعة أعوام، مما دفع الجمعية إلى تقديم شكوى لوزارة الصحة ضد تلك الشركات، مشيراً إلى تكوين لجنة تحقيق إلا أنه لم يجر بعد البت في الأمر.
كسب غير مشروع
وأشار إلى أن الكثير من الشركات استغلت غياب الرقابة وقامت بتغيير العبوات الخاصة بالأدوية دون علم مجلس الصيدلة، لافتا إلى أن “تجاوزات تلك الشركات تأتي في إطار الكسب غير المشروع وأكل أموال الناس بالباطل”.
وبدأت أزمة الدواء تتفاقم منذ يناير/ كانون الثاني 2020 عندما ألغى بنك السودان تخصيص نسبة 10% من حصيلة الصادرات غير النفطية، كانت توجه إلى استيراد الدواء.
ويستورد السودان سنوياً أدوية تتجاوز قيمتها 300 مليون دولار وفق إحصائيات سابقة صادرة عن المجلس القومي للأدوية والسموم، بينما تغطي الصناعة المحلية 40% فقط من حاجة السوق. إذ يوجد أكثر من 26 مصنعاً للأدوية في البلد.
وكانت الحكومة تعتمد على الصندوق القومي للإمدادات الطبية في توفير أصناف كثيرة من الأدوية، لكنّ الصندوق ركّز في السنوات الأخيرة جهده أكثر على توفير الأدوية المنقذة للحياة لأقسام الحوادث والطوارئ، بالإضافة إلى توفير الأمصال. في الوقت نفسه، تتيح الحكومة لشركات الأدوية استيراد بقيّة الأصناف.
ويتزايد القلق من تعرض السودانيين لصعوبات خانقة بفعل تردي الأوضاع المالية للدولة، لا سيما في أعقاب تداعيات الحرب الروسية التي أشعلت أسعار الطاقة والسلع الأساسية عالمياً.
ورصدت تقارير لمجلة فورين بوليسي ووكالة بلومبيرغ الأميركية أخيراً، مؤشرات تعرض العديد من البلدان الفقيرة لاضطرابات اقتصادية كبيرة واحتمالات التخلف عن سداد الديون السيادية خلال العام الجاري 2022، بفعل تداعيات هذه الحرب وتراكمات جائحة فيروس كورونا المؤجلة.
ورغم تداعيات الحرب الروسية على أسعار السلع المستوردة من الخارج، طبّقت الحكومة السودانية قبل أيام، زيادات جمركية جديدة على الكثير من الواردات، بنسبة بلغت 100% لتغطية عجز الإيرادات في الموازنة العامة للدولة للعام الحالي 2022 فيما أبقت سعر الدولار الجمركي دون تعديل عند مبلغ 430 جنيهاً.
العربي الجديد