تنبيه الناس إلى خطورة جعفر عباس
غازي القصيبي
(هذه قلادة طوق بها عنقي الحبيب غازي بن عبد الرحمن القصيبي رحمه الله وكانت مقدمة لكتابي «زوايا منفرجة وأخرى حادة”):
قراءة الصحف في هذا الزمان، مهمة لا تخلو من إزعاج. فهناك، أولاً، الأخبار المحزنة تنهمر من كل شبر من المعمورة. وهناك، ثانياً، الآراء المغرضة أو السطحية، وهناك ثالثاً، السم الزعاف الذي يتجرعه المرء يومياً إن كان عمله يجعل منه هدفاً يومياً يستهدفه الجميع، ويتمرن الهواة على الكتابة بمهاجمته.
في ضوء ذلك، كان لا بدَّ من وجود واحة خضراء يأوي إليها المرء من عناء الرحلة اليومية القاتلة في هجير الصحف، وهذه الواحة هي الكتابة التي لا تسبب صداعاً، ولا ترفع مستوى الضغط أو السكر، ولا تعكر المزاج، وترسم ابتسامة على وجه القارئ. كل هذه المواصفات لا تتوافر إلا عند كاتب ساخر راق في ثقافته، راق في سخريته. وكل هذه المواصفات تتوافر لدى صاحبنا الذي قرر أن يتجاهل القول المأثور «لا يزال المرء ممتعاً بعقله حتى يتزوج أو ينشر كتاباً» ففعلها ونشر كتاباً. إما وقد فعلها فقد أصبح لزاماً عليّ تحذير الناس من خطورة جعفر عباس.
كان لقائي الأول بصاحبنا قبل عقد ونصف من الزمان. كنت أيامها سفيراً في لندن وكان عملي يستوجب مني أن أقرأ الصحف البريطانية والعربية المهاجرة، وذات صباح لفتت ناظري زاوية منفرجة أو حادة أو مدببة (نسيت، ولا يحصي زوايا جعفر عباس سوى جعفر عباس) في صحيفة عربية مهاجرة (غفر الله لها ما كانت تصنعه بمزاجي كل صباح – يعني صحيفة القدس العربي). وفجأة، ذهب الصداع واعتدل المزاج. بدأت أتابع الزاوية وأصرخ كل ما انتهيت من قراءتها «وجدته! وجدته!». من وجدت؟ الكاتب الساخر الراقي الذي كنت أبحث عنه بالتُفقْ (والتفق تعني البندقية بالخليجية الدارجة والهدف ليس قتل الكاتب بل مجرد العثور عليه). منذ ذلك الوقت، أصبحت مدمناً من ضحايا جعفر عباس. وكان هو، شأن أجداده من بني عبس، يشد رحاله بين الحين والحين من صحيفة إلى صحيفة وهو يزأر «وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى»، وكنت أنا أتبعه حيث يذهب (أحمد الله أنه لم يقرر دخول جحر ضب!).
وأعلموا، أيها القراء الكرام، أن السخرية ثلاثة أنواع: السخرية من الذات وهي سخرية المتواضع، والسخرية من الأقوياء وهي سخرية الشجعان، والسخرية من الضعفاء وهي سخرية الأنذال. وأعلموا، أن سخرية صاحبنا تتراوح بين التواضع والشجاعة، مع شيء من الفروسية لا شك أنه موروث من جينات جده عنترة العبسي (الذي قتل في شعره أكثر بكثير مما قتل في معاركه!)
وأعلموا أيضاً، أيها القراء الكرام، أن هناك فارقاً كبيراً، يخفى على الكثيرين، بين السخرية والتهريج. السخرية تضحك، والتهريج يضحك، إلا أن ضحك التهريج لا طائل وراءه ولا فن ولا ثقافة ولا رؤية (إضحاك الناس بالتزحلق على الموز أو السقوط من الكراسي أو النكتة الساقطة يدخل في باب التهريج). أما السخرية فهي، دائماً وأبداً، تنطلق من موقف وتهدف إلى موقف، ومن العجب العجاب أن معظم كتاب السخرية الراقية مسكونون بالهم الإنساني العميق، ومن الدموع تنبع الضحكات، وكم من ضحك كالبكاء
أيها الناس! كتابات جعفر عباس تصيب القارئ بالإدمان، وها أنذا أنذركم فأقرؤوا أو افرنقعوا…! وقد أعذر من أنذر!
(عمل غازي القصيبي وزيرا للصناعة والعمل والصحة والكهرباء وسفيرا في بريطانيا وغيرها /// الموزع الوحيد لكتابي مكتبة جرير)
جعفر عباس