مقالات متنوعة

الإدارة الأهلية وحميدتي: متعودة .. دائماً

آمل ألا يحجب الهزء بحميدتي عنا أمرين. الأول أننا لم نر نفع فك الخط فيمن سبقوه إلى سدة الحكم من الديكتاتوريين حتى نعيره بالأمية والجهل. كلهم قتلة من الطراز الأول. فحتى الفريق عبود الطيبان فيما زعموا قتل جماعة من الأنصار في مولد النبي عليه أفضل الصلاة والسلام. أما الأمر الثاني فإن لجوء حميدتي للإدارة الأهلية هو طبع سياسي في الدولة المركزية منذ نشأتها بصورتها الحديثة على يد الإنجليز. فاستنصاره بالإدارة الأهلية ليس عن جهالة بل هو تحالف في بنية الدولة السودانية حتى في عهودنا الديمقراطية. وهو من طبيعة الأشياء. فالإدارة الأهلية من صنع المركز مفهوماً وتشريعاً ووصفاً وظيفة حتى كشف مرتبات شاغلي وظائفها.
وأعرض في هذا المقال لأربع محطات استدعت فيها الدولة المركزية الإدارة الأهلية لتتقوى في مواجهة كتل حزبية ونقابية وشبابية ونسائية معارضة من المدينة. والمحطات الأربع هي:
1-محطة التأسيس في عشرينات وأول ثلاثينات القرن الماضي،
2-محطة مواجهة المركز الاستعماري لمؤتمر الخريجين في أوائل الأربعينات،
3-محطة الجمعية التشريعية، ١٩٤٨.
4-محطة مواجهة الإدارة الإنجليزية لحزب الأمة الذي انفك من حلفه معها في أوائل الخمسينات،
5-محطة الحركة الجماهيرية والحكومية لتصفية الإدارة الأهلية بعد ثورة أكتوبر 1964.

1-محطة التأسيس في عشرينات وأول ثلاثينات القرن الماضي،
سبق لي الحديث عن هذه المحطة. وأقول بإيجاز هنا إن الإنجليز أفاقوا لنفع النظم الإدارية القبلية بعد 20 عاماً من الحكم المباشر. ولم يكتشفوا أنها من تقاليد السودان الأصيلة، كما صفوة منا لا صبر لها على العلم، إلا حين حوصروا من جهتين. من الجهة الأولى بواسطة الخريجين الذين اخرجتهم الإدارة الإنجليز من معطفها، وتوسمت فيهم الخير والامتنان، فإذا بهم يخرجوا عليها بوطنية الاتحاد السوداني، واللواء الأبيض، وثورة 1924. فعضوا بنان الندم. ومن جهة ثانية خشي الإنجليز من الإمام عبد الرحمن المهدي، الذي انتشلوه ومولوه ليكون زعيماً مأمون الجانب، من أن يجسر الشقة بينه وبين المتعلمين الوطنيين فيتحالف الريف، أي الإمام، مع المدينة. وفي هذا مصرعهم. وشهدت هذه الفترة التشريعات المحمومة لتأسيس الإدارة الأهلية كيفما اتفق كما سنرى في مقال آخر.
2- المجلس الاستشاري لشمال السودان: محطة مواجهة المركز الاستعماري لمؤتمر الخريجين في أوائل الأربعينات
استدعى الإنجليز الإدارة الأهلية لتظاهرهم بوجه مطلب مؤتمر الخريجين (1938) للحكم الذاتي خلال الحرب العالمية الثانية. وهو التظاهر الذي ساق الحكومة لتكوين المجلس الاستشاري لشمال السودان (1946) كمنبر لحلفائها في الإدارة الأهلية وحزب الأمة وسط مقاطعة المؤتمر وطوائف الاتحاديين ممن هواهم مع مصر.
تقدم مؤتمر الخريجين في أبريل 1942 بمذكرة للإدارة الاستعمارية طلب فيها أمرين رئيسيين ضمن مطالب أخرى. كان المطلب الأول هو صدور تصريح من كل بريطانيا ومصر بمنح السودان حق تقرير المصير بعد نهاية الحرب العالمية الثانية (1939-1945). أما المطلب الثاني فكان قيام هيئة تمثيلية سودانية تتولى إقرار الميزانية والقوانين كأي برلمان. وشجعت تطورات محلية وعالمية المؤتمر على تلك الجراءة السياسية منها “إعلان الأطلنطي” (1941) الذي تواضع فيه قادة دول الحلفاء على الحرب (تشرشل الإنجليزي وفرانكلين روزفلت الأمريكي) على منح المستعمرات حق تقرير المصير بعد نهاية لحرب لحشدها وكسبها ضد النازية.
رفض الإنجليز المذكرة لأن الاشتغال بالسياسة خارج اختصاص المؤتمر الذي صدقوا به على بينة أنه نقابة ترعي مصالح أعضائها من الأفندية. وجرى تفاوض بين الخريجين والحكومة ذكرني بما يجري ليومنا بين قوي إعلان الحرية والتغيير والمجلس العسكري. فأحتج السكرتير الإداري على المؤتمر لزعمه تمثيل الأمة السودانية. وقال إن الحكومة حريصة على الأخذ برأي السودانيين في شأنهم ولكنها لا تقصر ذلك على الخريجين بل تشمل به كل طوائف السودانيين. وتعبأ المؤتمر لبيان قوته بتمديد جذوره بين السودانيين مستميتاً عند مذكرته. ولكن جماعة منه لم ترغب في التصعيد وخرجت منه لتكون حزب الأمة الحي وموجود ليومنا بعد إزاحة رموزهم من قيادة المؤتمر في انتخابات 1943. وصار بها الزعيم الأزهري رئيساً للمؤتمر على رأس شيعته من الأشقاء والاتحاديين.
أما الحكومة فسعت من جانبها لترتيب بيت حلفائها. فكونت المجلس الاستشاري لشمال السودان الذي دخله أقطاب الإدارة الأهلية وجماعة الخريجين ممن وصفوا ب”الاعتدال” بواسطة منبر حزب الأمة المرعي من قبل السيد عبد الرحمن. وواضح أن قيام ذلك المجلس كان بمثابة التفاف حول مطلب الخريجين بقيام هيئة تمثيلية سودانية ذات اختصاصات برلمانية لا استشارية. وقاطع الخريجون المجلس بقرينة سقفه الاستشاري الواطي ولاقتطاع الجنوب منه. وبلغ من مقاطعتهم أن نبذوا كل عضو منهم جنح إليه.
وأبٍقى ما صدر من ذلك المجلس قانون الخفاض الفرعوني الذي جرم الممارسة. وهو ما قاد إلى ثورة رفاعة التي قادها الأستاذ محمود محمد طه بعد تعرض أسرة لإجراءات القانون أثارت حفيظة أهل المدينة.
ونواصل

د. عبدالله علي إبراهيم

صحيفة التحرير