مقالات متنوعة

في رثاء الحسيب النسيب السيد على الميرغني: هل أمهاتنا بيولوجيا أم ثقافة أيضاً؟ (١-٣)

د.عبدالله علي إبراهيم
من عيوب التراجم التي يكتبها المتعلمون بالمدرسة عن أنفسهم أنها غالباً ما بدأت بمدرسة ما لا البيت. فقد تشربوا عقيدة بخت الرضا من أن موضع ميلادهم في الثقافة هو يوم دخولهم مدرسة “المبشر” (والاستعمار بعثة تبشيرية قبل كونه بعثة اقتصادية) لا في بيت من أب وأم. فقال قريفث، الذي من وراء خيال معهد بخت الرضا ومناهجها، إن المدرسة التي توافر على صناعتها فينا “خضراء دمن” أي أنها المرأة الحسناء في منبت السوء. ومنبت السوء هنا هو البيت. وعليه صار الأم والأب عند خريج المدرسة من حقائق البيولجي فحسب لا حقائق الثقافة.
لم يكن لي ترف الترفع على ثقافة البيت وأمي هي جمال أحمد حمد إزيرق مثقفة جيلها. خضعت معها لمنهج صارم في الثقافة التقليدية في الحجا والغناء (يا للمغني النوبي) والمديح والرد السريع والدعاء (اليسويبك واليسويبك)، والصاح والغلط (قالت لي مرة والله لو شغل الحكومة دا عيش ما تاكل). ولكن كانت أكثر دروسها أحاطة بي وعناية ونفاذاً هي محبتها للسادة الختمية. كان لا يطربها شيء مثل ذكرهم وما عداهم “زي الواطا دي”.
في مناسبة يوم المرأة العالمي أعيد نشر مقالة نعيت بها الحبيب النسيب السيد على الميرغني (وفاته في ٢٣ فبراير ١٩٦٨) الذي جلست إلى كورسات يومية تلقيها جمال أحمد علي عنه، بل وإلي “معامل” جربت علي فيها كل بخرة منه وذرة رمل من مقابر المحجوب. وهذا في معنى قولي إن جمال لم تكن مجرد بيولجي كأمهات كثير من صفوة تعليم المدرسة (دعا عليها الشيخ علي بيتاي فقال إن شا الله يقرقر فيها البعشوم) بل ثقافة لها إيقاع وأريحية وقوة.
بطاقة عزاء للأهل
إلى أهلي في دروبهم وعلى هامات نخيلهم الموت حق والحياة باطلة.
حزني عليهم. يتامى ومساكين وأبناء سبيل فليس لهم من بعده من يؤلف قلوبهم
بطاقة عزاء إلى الأهل في الحسيب النسيب السيد علي الميرغني (تندلا لكريمي)، وتركب لواري الشراقة، أو الكربكان، أو بصات اتحاد أبناء الغربية. إلى أهلي في الأراك، والكرفاب، وود جلاب، والبرصة، والشلختية، وحلة أرقو، والقلعة، والبار، وجلاس، وجزيرة الشاطراب، والعالياب، والغريبة، ومحروسة. يصرخ فيهم الصائح في دروبهم، وعلى هامات نخيلهم: الموت حق والحياة باطلة والسلام.
لم تكن معالم قريتنا من الكثرة بحيث تستعصي إدكارا على ذواكرنا الفقيرة والغضة. السماء تنهزم أطرافها باسترخاء مخل بعد الضفة الغربية بقليل من وراء سلسلة الجبال على الضفة الشرقية. ويقول أهلنا إن السماء تتكي ككل الأشياء التي تبلغ أرذل العمر. وفاس فيما يتداول أهلنا ليس من ورائها ناس. وحين يأتي على لسانهم ذكر آخر الدنيا دلالة على البعد والمكان القصي فلا أحسبهم يُدخِلون في عداد ذلك واحداً في المئة من اليابس من عالمنا الذي نشتغل به اشتغالاً حميماً ومرهقاً.
وذواكرنا الهشة تستقبل من معالم ذلك العالم الضيق المشدود إلى نفسه ما ظلت تستقبله كل الذواكر من قبلنا. “تمرتنا الجميلة” وبلحها الذهبي الذي يجذب بحلاوته المبكرة شقاوتنا، وولعنا المبكر أيضاً للحلو والطاعم من الأشياء. وخلوة الفكي إبراهيم الذي نسجل له اكتشافنا للقرآن الكريم بعد أن ظل قسماً نلهج به ونبدل همزته عينا، القرعان، فيما يسميه النحويون التصحيف أو ما لا أدري. وحملنا عرفاننا بجميل الفكي إبراهيم علينا إلى المدارس الأولية. فحينما نُسأل على من نزل القرآن كنا نجيب بثقة مفرطة. فما نزل القرآن إلى على الفكي إبراهيم. وتلقينا يومها فجيعتنا في إجابتنا وانتكست راية فخرنا. وعالجنا انكسارنا مؤقتاً فلا تثريب، فالنبي عليه أفضل الصلاة والسلام منّا وإلينا. وما زالت آثار حوافر حصانه على جبل كلنكاكول الرابض من خلف قريتنا. ولم تنبحه الكلاب إلا لأنه اختارها من دون كل القرى مقاماً، ومهاد دعوة، ومثوى لجسده الكريم فيما كان ينقل إلينا الأجداد والجدات الذين ولد الزمان على حجورهم فيما كنّا نتصور..
وبين دارنا وبئر (ود جيني) يصنع حبل الدلو طريقاً ندياً من أثر الماء في الورود والصدور. وطريقاً آخر تصنعه حوافر الحمير غادية رائحة إلى منزلنا. ولكن لم تكن تخلو حياتنا من غموض وإبهام. فدرب (الترك) الذي يجري ما بين البيوت والنهر لا تكاد نلمس لجريانه نهاية. وحين نريد سؤال الإباء عنه كنا نجاب باقتضاب بأنهم في الصعيد. وحين نسأل عن الصعيد تثرثر الإجابة وتفيض. فإذا أشواقنا للصعيد الجنة أو بالجنة أشبه تتنامى. فطرقات الصعيد ناصعة البياض لأنها من السكر الخالص. وشوقنا وآ شوقنا نحن للسكر الخالص بعد أن تشققت الألسن منا ونحن نلعق به الحيطان الجديدة نقتفي أثر الملح فيها.
وكان السر الأعظم الذي يجتاح حدود قريتنا المنكمشة، ويدير الرأس، وينتقل بالإنسان فوق تواضع المعالم المعروفة المحفوظة عن ظهر قلب: كان السر سيدي علي. يحدثنا الأهل أنه كان بقريتنا سوق يؤمه أهل القرى المجاورة. وقد عصفت به الأيام. ولكن سريقة أو أخرى من سوره ما تزال شاهداً على صحة الرواية. ويحدثنا الأهل أن جدنا ود حجر، أمطره الله شآبيب رضوانه ورحمته، قد راقب كربة أهله تحت جيوش الأنصار للذرة، وما ذاقوا من ويل ليصل الأنصار إلى مطاميرهم. فحز في نفسه ذلك فإذا بالذرة حين وصل إليها الأنصار حجارة وحصى. وكان ود حجر في قريتنا قبة تحتها فكي نتسابق إليها إذا حل العيد بنا. ويفزع إليه أهلنا بالنديهة: يا ود حجر القلب العيش حجر إذا عادت الحياة تنقض عليهم وتذلهم مذلتها القديمة.

صحيفة التحرير