هل تصلح الوثيقة الدستورية لعام ٢٠١٩ أساساً للانتقال في السودان بعد انقلاب ٢٥ اكتوبر ٢٠٢١ ؟!
الاجابة البسيطة والمباشرة هي: لا.
لأن الانتقال الذي أسست له هذه الوثيقة الدستورية فشل وانتهى بموجب انقلاب ٢٥ اكتوبر الذي لا تزال اجراءاته سارية حتى الان.
ولكن لتعزيز هذه الاجابة يستلزمنا الرجوع الي كيف تم التوصل لهذه الوثيقة الدستورية وماذا حدث خلال تنفيذها. من نافلة القول ان الوثيقة الدستورية والاتفاق السياسي السابق لها لم يتم التوصل لهم كاملة في يوم التوقيع ١٧ اغسطس ٢٠١٩، بل امتد التفاوض منذ منتصف ابريل ٢٠١٩ وحتى يوم التوقيع. ولم يتوقف التفاوض الا في فترة ما بعد ٣ يونيو ٢٠١٩ بسبب مجزرة فض الاعتصام ولم يعاود مساره الا بعد مواكب ٣٠ يونيو عبر الوساطة الاثيوبية/الافريقية والتي بدأت في التحرك منذ زيارة رئيس الوزراء الاثيوبي ابي احمد للخرطوم في ٧ يونيو ٢٠١٩. تشكلت ملامح هذه الوثيقة تدريجيا من خلال التفاوض بمشاركة كل القوى السياسية وكافة مكونات قوى الحرية والتغيير والتي مثلت بمفاوضين متعددين (٢ من كل جسم) في وفد التفاوض. بل ان اغلب بنود الوثيقة قد كان تم التفاوض عليها وحسمها قبل توقف التفاوض بسبب فض الاعتصام، ما عدا نقطة تشكيل مجلس السيادة وتوزيع مقاعده.
بعد فض الاعتصام حاول المجلس العسكري التراجع عن بعض ما تم الاتفاق عليه. ولكن تمسكت القوى المدنية بمكتسباتها او بما ظنت انها مكتسباتها في ذلك الحين. وانتهى الامر بالتوقيع على الوثيقة بشكلها الذي جاءت به. ولكنها اغفلت ادراج بنود تضمن تنفيذ هذه المكتسبات.
جاءت الوثيقة الدستورية نتيجة تفاوض خاضته القوى السياسية المدنية وهي غير موحدة حول ما الذي تريد الوصول اليه، ومرهقة بعبء ٣٠ سنة من غياب الممارسة السياسية الصحية والمشاكل التنظيمية الداخلية، وغير متوافقة بخصوص شكل الانتقال الذي تود ادارته او الوصول اليه. حتى الحديث عن وجود برامج للانتقال وخطط له وما الي ذلك لم يكن دقيقا. ما كان موجودا هو تصورات عامة على احسن الفروض وحتى هذه لم يكن هناك اتفاق حولها. وهذا ما انتج هذه الوثيقة التي بدأت ثقوبها في الظهور سريعا. ولهذا ايضا خضعت قوى الحرية والتغيير سريعا للضغط الشعبوي بايكال مهام الجهاز التنفيذي لكفاءات مستقلة في متن الوثيقة الدستورية -متجاهلة الفرق بين المهام السياسية لمجلس الوزراء والمهام التقنية للوزارات- تملقا للقبول الشعبوي وايضا في ذات الحين تهربا من المسئولية السياسية لادارة البلاد. ولاحقا حينما انتبهت الي ذلك، اختارت ان تخلق معارك وهمية – ولم تقصر مكونات الخندق العسكري في اشعالها واذكاء نيرانها- وتتجاهل الوثيقة او تقفز عليها بالمشاركة وخلق اجسام غير دستورية او فوق دستورية وتعمد الي ترويجها اعلاميا – ابدأ من مجلس السلام، والاجتماع الثلاثي، وحتى مجلس الشركاء وما بينهم-. بدلا عن اكمال مكونات الحكم الانتقالي وتكوين المجلس التشريعي ليصبح اداة رقابة وتقييم حقيقية، وهو الامر الذي احتفى به العسكر بطبيعة الحال.
المهم، خلت وثيقة ٢٠١٩ من اي اليات رقابة او متابعة وتقييم او ضمانات لتنفيذها. وهو ما جعلها عرضة للقدح والتجاهل والتغيير عدة مرات. وسمح بالتغول المتزايد من العسكر على المهام التنفيذية. وهو ما فاقمه ايضا عدم وضوح تقسيم المهام واقتناع رئيس الوزراء وترويجه لمفهوم مختل عن الشراكة قائم على ارضاء الشركاء بدلا عن الالتزام الصارم بتقسيم المهام والواجبات، وهو الامر الذي اثر بشكل كبير على اضعاف الجهاز التنفيذي امام تغول المكون العسكري.
بعض هذه المشاكل كانت نتيجة للوثيقة وبعضها كان نتيجة لضعف الالتزام بتطبيق ما فيها وعدم التعامل معها بشكل ملزم وبعضها بسبب ضعف الجهاز التنفيذي نفسه في نسختيه الاولى والثانية. فليس صحيحا على الاطلاق ما يتم الترويج له ان حكومة الحرية والتغيير الثانية افضل من الحكومة الاولى على الاطلاق. كلا الحكومتين كان فيهما وزراء جيدين وسيئين. بل ان بعض الوزارات الخدمية والسياسية شهدت احداث كارثية في عهد الحكومة الثانية، ولكنها كانت حكومة اكثر قدرة على تناول الملفات السياسية وتحظى بالدعم السياسي الذي افتقدته الحكومة التي ركزت الحرية والتغيير -خصوصا في نسختها الاولى- على مناكفتها وتعطيلها وابتزازها سياسيا – ابدأ من ملف تعيين الولاة مرورا بملف الاصلاحات الاقتصادية وحتى ملف تعيين الحكومة الثانية ذات نفسه- . كان العيب الاساسي الذي سمح بذلك في الوثيقة هو انها لم تحدد الادوار وتفصلها بشكل واضح وهو ما ادى الي بروز ورسوخ مفاهيم اسطورية غير محددة المعالم مثل الشراكة ودور الحاضنة السياسية … الخ.
في الحقيقة ان هذه النواقص في الوثيقة جاءت نتيجة انها انبنت على (حسن ظن) معيب. حسن ظن في ان الجميع متفقين على الانتقال السياسي في السودان نحو نظام مدني ديموقراطي. وهو ما ثبت منذ وقت مبكر عدم قناعة العساكر به، وان جهاز الدولة هو ساحة معركة اخرى لانتزاع السلطات المدنية -راجع معركة تبعية بنك السودان ، او معركة تبعية جهاز الاتصالات وسوداتل والتي لم يحسمها حتى انشاء وزارة الاتصالات والتحول الرقمي في الحكومة الثانية، ناهيك عن التدخلات في ملفات السياسة الخارجية او تعيينات الشرطة او اصلاح القطاع الامني والعسكري- . انتهى هذا التغول العسكري المستمر بانقلاب العسكر على الوثيقة في ٢٥ اكتوبر، والذي منح قائد الجيش فيه نفسه بدون اي سند قانوني او دستوري حق حل الحكومة ومجلس السيادة واعادة تعيينه كما يشاء وممارسة سلطات المجلسين، بل وتجميد ما يشاء من بنود وهو الامر الذي لا يزال ساريا حتى الان. بل وحتى وثيقة الحقوق التي احتوتها الوثيقة الدستورية يتم حتى اليوم انتهاكها بشكل يومي ومعتاد في الشوارع والمعتقلات القديمة والجديدة. فأي شي تبقى من هذه الوثيقة لتكون اساسا لانتقال جديد.؟
الوثيقة انتهت وترتيبات ٢٠١٩ الدستورية التي عابها حسن النية انتهت بانقلاب ٢٥ اكتوبر والذي لم يجعل لحسن النوايا من مكان. ارواح اكثر من ٧١ شهيد ارتقت في اقل من ثلاثة اشهر تشهد على ذلك.
السودان يحتاج الان الي ترتيبات انتقالية جديدة تحت قيادة مدنية كاملة تضمن تفكيك دولة الفساد الموروثة من عهد حكم الاسلاميين وتمهد لتأسيس حكم مدني ديموقراطي راسخ في السودان. وهذا الانتقال ليس انتقال ما بعد ثورة ديسمبر الذي اغتاله العسكر في ٢٥ اكتوبر ٢٠٢١. بل هو انتقال جديد تكتب صفحاته بسالة الشوارع الثائرة الان وهنا.
امجد فريد الطيب
صحيفة التحرير