صلاح شعيب يكتب ذكرى مصطفى سيد أحمد: تمدد في مساحات الجيل الجديد
ذكرى مصطفى سيد أحمد: تمدد في مساحات الجيل الجديد
بقلم: صلاح شعيب
تسعة وستون عاماً، أو أكثر، تفصلنا من لحظة ميلاده، وستة وعشرون عاماً منذ وفاة الفنان الكبير. لكن الواضح – بالنسبة لنا نحن الذين عاصرناه – أنه كلما توغل بنا الزمان في السير شع مصطفى أكثر في حضورنا، وتعمقت دائرة اهتمامنا بأغنيته، ودور الغناء عموماً. وفي ذات الوقت يكون صوته قد اكتسب – على الصعيد الآخر – مساحات مدهشة لأجيال لم تره، أو لم تولد حين توفى.
١- بجولة سريعة في وسائط التواصل الاجتماعي تجد عشرات من المغنين الشباب الذين لم يتجاوز بعضهم الخمسة والعشرين ربيعاً، يقدمون أعماله بانضباط شديد حذو التون بالتون. بعضهم يجتهد بالعود في مطابقة مدى صوته الواسع في منطقتي الجواب والقرار فينجحون تارةً، ويواصلون الاجتهاد تارةً أخرى. بالأورغ يحاول عازف مغنً في الآن نفسه، أو عازف، ومغنً، أن ينبهاننا إلى أغنية بعيدة عن دائرة الشهرة، فيها موسيقى شجية، وميلودي مميز يجدد ضرورة تركيزنا باهتمام على الإرث الذي خلفه لنا الأستاذ. وهناك شباب بأوركسترا كاملة يغنون وجيدة، أو عشم باكر، أو الحزن النبيل، أو ليه غبتي يا القمرة، أو السحاب، أو سافر، وأغنيات أخرى، فضلاً عن ذلك فإن المغنين الذين هاموا بمصطفى لا يزالون يقدمون أعماله بكثير من الافتتان، والتقدير، لفنان لديه مقدرات موسيقية متقدمة، وتتميز بطبيعة معادلتها المجتهدة للشعر الذي لحنه.
٢- الرهان الإستراتيجي لمصطفى كان يتأسس على تحقيق نقلة في المفهوم السائد للغناء، ولدور المغني. إذ كان يرى أن كاريزما الفنان أقرب إلى المعلم التربوي منه إلى النجم الشهير الذي يعيش في برج عالٍ يفصله عن العامة. المعنى هنا أن الفنان بالنسبة لمصطفى هو الإنسان الذي ينفعل بعمق هموم أمته المجتمعية، ويحاول معالجتها إبداعياً، ولا يتهرب منها بدوافع أنه فنان لا علاقة له بالسياسة.
٣- كان مصطفى يرى أن الشعر المغنى – فصيحه، وعاميه – ينبغي أن يكون جيداً، وجديداً، ليضيف.. لا أن يساير الموجات الشعرية التي اختمرت في المحيط ثم انتهت هاجعة إلى شاطئ التجديد القديم، ولذلك تخيَّر معلم اللغة العربية السابق النصوص محل المعالجة ليس بهدف اختبار جديتها فحسب، وإنما أيضاً لقدرتها على صنع الدهشة للمتلقي ليغرس حسه الفني في معانيها المتراوحة بين العاطفة، والهم المجتمعي.
٤- التجديد الموسيقي الذي نشده مصطفى بيّن فلسفته في أكثر من حوار أجريته معه. وأذكر أن قال إن التجديد الموسيقي عنده يقوم على البناء فوق القديم، وينميه كموروث وطني يعبر عن هويتنا الثقافية. لم يكن ليرغب أن يخرج إطلاقًا عن التقاليد الموسيقية في بناء الأغنية سوى أنه أراد من ناحية أخرى أن يخوض تجارب موحية لمسرحة الأغنية من خلال النصوص الطويلة لحميد، والقدال، والفرجوني. وكان ينوي أن يُخرج هذه الأعمال مسرحياً إذا أمد الله في أجله، وفقاً لتصريحات صحفية. والمدعاة لحمله بعض أفكار مسرحية لكونه قد مارس التمثيل مرة، وشارك بالغناء مع مخرجين في أعمال مسرحية معروفة بعد انتفاضة إبريل.
٥- مركزية تفكيره السياسي في مقاومة الأنظمة الديكتاتورية كانت تعني أن الفنان ناشط سياسي بالضرورة، لو أن الله حباه بعقل حداثي خارج عن التنميط، ويحمل عاطفة مدينية فائقة المدى تجاه مواطنيه، ما يجعله بهذا التميز في طليعة المنادين بمقاومة الاستبداد، والدعوة للديمقراطية في البلاد.
٦- ارتباط مصطفى بخلق جماهيرية من القواعد في العاصمة، والأقاليم، ينم عن ذكائه في القدرة على خلق مستمع مثقف. وكانت جلسات الاستماع التي يعقدها بين الحين والآخر تسعى إلى تجاوز الفجوة التي خلقتها أجيال الفنانين السابقة بينها وبين الجمهور. وفي الوقت ذاته تمثل هذه المداولات الفنية الطليقة مساحة لفهم ذائقة الجمهور، والتي لا غنى عنها، ما دام هو محط العملية الإبداعية.
٧- فهم مصطفى لأهمية الجانب الأكاديمي لم يكن إلا لتدعيم إمكانياته، وتوظيف دراسته، لمقتضى التطوير في النظر، والأداء. ولكن كانت علاقة مصطفى بالمعهد العالي للموسيقى والمسرح لم تكن دراسية – نظامية فحسب، فقد وظف وجوده هناك أيضاً لخلق علاقات مع موسيقيين كبار، بينهم أجانب، ودراميين، وشعراء، شحذوه بمعارف عبر الحوار. ونعتقد أن هذا المناخ قد ساهم في تجذير ولهه بالتحديث، خصوصاً أن وجوده في المعهد تزامن مع وجود طلاب يحملون قريحة للتحديث الدرامي، والمسرحي آنذاك.
٨- نجاح إبداعية الفنان مصطفى قامت على الجرأة الكثيفة في التجريب دون انتظار المدح من الموسيقيين الذين كان معظمهم لا يعرف الخلفية الحداثية التي نشدها الفنان، والأهداف التي ترنو إلى تحقيقها. ولذلك شكلت له العراقيل، والسخرية الجاهلة تجاهه من بعض الموسيقين، طاقة للتحدي، والانتصار على مفاهيمهم المتكلسة عن التجريب الإبداعي.
٩- الارتباط الوطني العميق لمصطفى هو ارتباط وجداني بقطر واعد بتحقيق التعدد الثقافي، وقد مثل مصطفى هذا التعدد في كل مستويات تجربته، فمن ناحية النص غنى مصطفى لشعراء من كل جهات السودان مع تنوع القوالب الشعرية العامية المدينية، والريفية، والفصيحة ذات القافية، والتفعيلة، مثلما أن الإيقاعات التي تناولها عبرت عن كل الجغرافيا السودانية، فضلاً عن الاستعانة بإيقاعات خارجية. أما من ناحية التعدد اللحني لأعماله فقد نوع تعاونه في المجال بين مدارس تقليدية وحداثية.
١٠- ظللنا دائماً نشير إلى أنه لا يمكن اجتزاء تراث مصطفى، ودراسته بلا هدى، أو منهج، للوصول إلى أحكام هتافية تعلي من قيمته بدافع عاطفي، أو تقلل منه بدافع الغيرة المهنية لبعض المشتغلين بالفن. فهو قد بنى صرحاً ثقافياً يتموضع ضمن التجارب الغنائية التي احتشدت بكل لوازمها التي تجعلها من هالات العبقرية الإبداعية المميزة في بلادنا.
صحيفة السوداني