رأي ومقالات

في ذكرى رحيله.. محمود عبد العزيز.. حكاية (الود الشِّفت)

(1) في العام 1974م… توقف الممثل الكبير محمد شريف لوهلة مندهشاً لجرأة ذلك الطفل الذي لم يتجاوز الثامنة من العمر، وهو يقوم بأداء دوره خلال فقرة صغيرة ببرنامج جنة الأطفال، فاقترب منه بعد نهاية فقرته القصيرة وسأله عن اسمه، ليرد عليه الصغير بكل شجاعة: (محمود)، هنا طلب منه شريف أن يأتي بعد أيام ليشارك في مسرحيةٍ أخرى، وقد كان، فبعد فترة قصيرة ظهر ذلك الطفل بإحدى المسرحيات التي لعب فيها دوراً بارزاً، استطاع من خلاله حصد الإعجاب والتصفيق كذلك.
(2)
ونعود بهدوء للعام 1967… وتحديداً داخل عنبر الولادة بمستشفى الخرطوم بحري، حيث استقبلت أسرة العم عبد العزيز محمد علي أبو عون، أحد سكان حي المزاد بحري القدامى، طفلاً تم إطلاق اسم (محمود) عليه، ذلك الطفل الذي بدأت عليه علامات النبوغ باكراً، فمنذ أن تخطى عامه السادس حتى بدأ في ابتداع الكثير من الأشياء التي كانت تُدهش والدته الحاجة (فايزة محمد طاهر) وتجعلها توبخه في بعض الأحيان، خصوصاً عندما يقوم باستغلال طاولات الأكل، لينشئ بها مسرحاً صغيراً يدعو إليه أصدقاءه ويبدأ من ثم في تنفيذ بعض الحركات المسرحية مصحوبة ببعض الأغنيات.
(3)
الظهور الأول لذلك الطفل الصغير جماهيرياً كان على مسرح بحري، حيث غنى في ذلك الوقت بصحبة (كورس) وصفق له الجمهور كثيراً، بل إن المحافظ نفسه قام بإهدائه جائزة عبارة عن أدوات مدرسية ومبلغ مالي، ليواصل ذلك الطفل رحلة التألق ويعاود الغناء مرة أخرى بحفل قامت الكشافة البحرية بتنظيمه بتشريف رئيس الجمهورية في ذلك الوقت، المشير جعفر نميري، والذي أبدى إعجابه الشديد بذلك الطفل وقام بتقليده وشاح الكشاف الأصغر.
(4)
مرَّ الطفل الصغير بعدد من المدارس في مسيرته الأكاديمية، حيث بدأ بروضة الحرية ثم مدرسة الحرية الابتدائية وأخيراً المدرسة الإنجيلية، ليقوم بعدها بالالتحاق بقصر الشباب والأطفال، ويفكر بشكلٍ جدّي في الغناء بصورة أوسع وأشمل، واستمرَّ (محمود) على تلك الحالة حتى سنحت له الفرصة بالالتحاق بمركز شباب بحري، وكان ذلك حوالي العام 1987م، وهناك تعرف محمود على العازف الشهير عبد الله الكردفاني، الذي قام بمده بالكثير من النصائح وأخبره بأنه يمتلك صوتاً فريداً من نوعه وعليه أن يحافظ عليه.
(5)
ظل (محمود) يغني متى ما سنحت له الفرصة بالحفلات العامة، وظل في كل يوم يحصد معجباً جديداً، حتى كانت المفاجأة عندما قامت شركة حصاد للإنتاج الفني بمفاوضته لإنتاج شريط كاسيت له، وربما فكر محمود طويلاً في تلك الفترة ما بين العام 1993 و1994م، لكنه قرر أن يخوض التجربة بالرغم من نصائح الكثيرين أن يركز في تعريف نفسه للجمهور، لكن محمود رفض ذلك وقال بأن الفنان يجب أن يقوم بتعريف نفسه للجمهور بصورة فيها احترام للجمهور نفسه، وقد كان، حيث قامت حصاد بإنتاج أول إلبومات محمود والذي جاء يحمل اسم (خلِّي بالك).. ذلك الإلبوم الذي قام بالفعل بالتعريف عن فنان قادم بقوة اسمه (محمود عبد العزيز)، ويقول بعض تجار الكاسيت القدامى عند هذه النقطة، إنهم تفاجأوا بفنان جديد يتم الإعداد لإصدار إلبوم له واسمه (محمود عبد العزيز)، ويقول أحدهم إنه قال لرفقائه إن هذا الإلبوم لن ينجح، لأن اسم الفنان (عادي) ويشابه اسم ممثل مصري، لكنهم فوجئوا بالإقبال على الإلبوم منذ اليوم الأول، وبعد أن استمعوا للإلبوم بتركيز، اقتنعوا تماماً بأن هذا الشاب الجديد سيكون له مستقبل باهر جداً، الجدير بالذكر أن هذا الإلبوم جاء بمشاركة فاعلة من العازف ماهر تاج السر.
(6)
نجاح إلبوم (خلي بالك)، ربما فتح شهية شركة حصاد للإنتاج الفني، فعرضت على محمود عرضاً آخر في العام 1995 بإنتاج كاسيت آخر جاء ليحمل اسم (سكت الرباب)، ذلك الكاسيت الذي تم تسجيله بروسيا، في تجربة كانت حديث أهل الفن والموسيقى، وعند هذه النقطة نصطحب معنا حديث الملحن الفاتح حسين الذي قام بالتوزيع والإشراف على ذلك الإلبوم، والذي قال: (محمود أدهش الروس بصوته، وعرض عليه البعض الإقامة هناك ولكنه رفض، بل إن الموسيقار الروسي الكبير ميخائيل قال عن صوته إنه موزون مثل الآلات الموسيقية تماماً)… وأضاف: (أنا لا أتخيل أن يكون هذا الصوت إفريقياً، بل هو صوت عالمي يستحق أن يكون في الأوبرا)… وصمت قليلاً قبل أن يضيف: (هذه المرة الأولى التي أستمع فيها لصوت بشري موزون تماماً كما الآلة الموسيقية).
(7)
عاد (محمود) بعد فراغه من تسجيل الإلبوم وبعد توزيعه في الأسواق بفترة وجيزة، قامت شركة البدوي بالترتيب لإصدار كاسيت جديد له باسم (يا عُمُر)، ذلك الكاسيت الذي أشفق كثيرون على محمود من الموافقة عليه، ونصحه عدد من الموسيقيين بضرورة التريث حتى يجد إلبوم (سكت الرباب) مساحته وصداه، لكن (محمود) وكعادته رفض فكرة التريث، وقال إن لكل إلبوم وظيفة وهدف معين، وبالفعل قام بتسجيل إلبوم (يا عُمُر) في نفس العام، ليحقق هذا الإلبوم أعلى معدلات التوزيع ويتسبب في تراجع كل الإلبومات الصادرة في ذات التوقيت.
(😎
بعد صدور إلبوم (يا عُمُر)، وانتشار اسم الفنان محمود عبد العزيز في كل مكان، قررت شركة البدوي للإنتاج الفني أن تقوم بالتعاقد مع محمود لسنوات طويلة، ويكون لها حق الإنتاج الحصري لإلبوماته، ووافق محمود على ذلك المقترح، ليقدم في العام 1996 إلبوم (سيب عنادك)، ذلك الإلبوم الذي فتح الباب على مصراعيه لمحمود عبد العزيز وجعله يتربع على عرش أعلى الإيرادات، حتى أن بعض الفنانين كانوا يقومون بتأجيل إصدار إلبوماتهم الجديدة حتى لا تتضارب مع إلبوم جديد لمحمود، ويمكن أن نقول إن محمود في تلك الفترة كان هو الذي يتحكم بسوق الكاسيت من خلال إلبوماته.
(9)
بعد إلبوم (سيب عنادك)، انهمرت إلبومات محمود في السوق حتى وصلت لأرقام خيالية بالمقارنة مع منتوج أغلب الفنانين، فجاءت إلبومات كثيرة هي بالترتيب (سبب الريد/ يا مدهشة/ يا مفرحة/ جواب للبلد/ زمني الخائن/ لهيب الشوق/ في بالي/ الحجل بالرجل/ ما تشيلي هم/ على النجيلة/ نور العيون/ قائد الأسطول/ برتاح ليك/ عاش من شافك/ أكتبي لي/ عامل كيف/ شايل جراح/ عدت سنة/ القطار المرا/ مرت الأيام/ خوف الوجع/ ساب البلد/ اتفضلي/ الحنين/ يازول يا طيب)، وتلك الإلبومات وجدت حظها من الانتشار في كل مكان حتى في الكافتريات والأماكن العامة، وأصبح اسم (محمود عبد العزيز) هو الأبرز والأكثر رنيناً في كل المحافل والمنتديات وحتى الصحف، التي ظلت تولي كل أخباره اهتماماً منقطع النظير، حتى أخباره الخاصة والتي كانت في مقدمة الأخبار الفنية، وعن تلك الجزئية يقول مقربون من محمود: (غلطة محمود أنه تجاهل ضرر الأخبار الكثيفة التي كانت تُنشر عنه، فهي السبب الرئيسي في كثير من المشاكل التي واجهها).
(10)
عن حياة محمود الخاصة حكى الكثيرون، وانتاشته الشائعات من كل حدب وصوب، كان آخرها شائعات وفاته إبان مرضه الأخير، بينما حفلت زيجاته المتعددة بالكثير من الاهتمام، ونال زواجه الأسطوري من الفنانة حنان بلوبلو تغطيات واسعة وتعليقات متعددة كذلك، ويقول محمود عن هذه الجزئية: (نعم.. تعرضت للكثير من الصعوبات في مسيرتي الفنية، واغتالتني الشائعات أكثر من مرة لكنني كنت أشجع نفسي بجمهوري، وأقول إنهم زادي ومعيني الذي لا ينضب).
(11)
شخصية الفنان محمود عبد العزيز في حد ذاتها مثيرة للجدل، فهو بحسب إفادات المقربين منه إنسان عنيد جداً، ويقتنع تماماً بالمثل الذي يقول: (إفعل ما تُحب)، حتى في حفلاته وكل ما يدور في فلكه، أما الجانب الذي لم يظهر من شخصية ذلك الفنان المميز هو (إنسانيته) وروحه الشفيفة وقلبه الأبيض الذي لم تُغيّره السنوات ولا الشهرة، وعن مواقف محمود الإنسانية تحكي المجالس الفنية، وعن مواقفه نحكي ذلك الموقف الذي من أجله صفق له كل الجمهور، وهتفوا له، وذلك بعد أن قام خلال إحدى الحفلات بإزالة كافة الحواجز الأمنية ما بينه والجمهور، وسمح لأحد معجبيه المعاقين من الصعود للمسرح، بل وجلس على الأرض بجانبه وهو يغني، في موقف عكس مدى نبل وطيب وعمق إحساس ذلك الشاب، بينما لا تزال المواقع الإلكترونية تحفل بقصته الشهيرة مع الأطفال المصابين بمرض السرطان، والذين أقام محمود من أجلهم حفلاً جماهيرياً ضخماً، يعود ريعه لصالحهم، وقام خلال ذلك الحفل باحتضان عدد منهم والغناء بجانبهم، قبل أن يصاب بصدمة كبيرة بعد أن نقل إليه أحدهم خبر وفاة أحد أولئك الأطفال الذين كانوا يغنون معه بالحفل قبل أيام، ليدخل في حالة نفسية سيئة جداً ويبكي بشدة، ويضرب عن الطعام لفترة قبل أن يقنعه أصدقاؤه بضرورة تناسي ذلك، والعمل على عدم تكرار تلك المأساة.
(12)
لمحمود عبد العزيز كذلك ميول رياضية كبيرة لا تخفى على أحد، فالشاب من مشجعي وأنصار نادي المريخ السوداني، ويقول محمود عن كشفه عن لونيته الرياضية: (لا أخاف أن أفقد جمهوري بسبب انتمائي الرياضي، فنحن تعاهدنا على الحب مدى الحياة، وانتماء أي شخص هو شيء داخلي، وميول كل منا للون معين يعود إليه ولا يؤثر إطلاقاً في محبة الناس)، وبخلاف ميول محمود الرياضية فهو كان رئيساً لنادي المزاد بحري والصبابي لفترة من الوقت، قبل أن يصرف النظر عن الرياضة وإدارتها ويكتفي بتشجيع فريقه المريخ من داخل وخارج الاستاد.
(13)
كثيرون يعتقدون أن محمود عبد العزيز هو سبب أساسي في ظهور الكثير من التقليعات الجديدة في أواسط الشباب، فنجوميته الطاغية جعلت بعض محبيه يسعون لتقليده في كل شيء، حتى في طريقة قصة شعره وأسلوب حلاقة لحيته، وليس ببعيد عن الأذهان موضة (حوتة) التي سارت عليها صوالين الحلاقة ردحاً من الزمان، بجانب ذلك نجد أن الكثير من الأشياء المرتبطة بحياة المجتمع لم تنسَ إدراج اسم محمود وبعض إلبوماته فيها، ومثال على ذلك إطلاق اسم (لهيب الشوق) -وهو أحد إلبوماته- على نوع من السيارات، بجانب إطلاق اسم (سيب عنادك) على ماركة أحد الأقمصة الرجالية التي نالت حظها من الرواج بسبب ارتباطها باسم ذلك الفنان الشاب.
(14)
إثارة محمود للجدل لم تتوقف عند الفن وحسب، بل امتدت لذلك عندما ظهر في الصحف المختلفة بلباس الطرق الصوفية، ومن ثم انطلاق الأحاديث حول علاقته بالطرق الصوفية، ليكتشف الجميع فيما بعد أن لمحمود علاقات وطيدة جداً مع الطرق الصوفية، التي يكن لها حباً عظيماً، وبالأخص الشيخ الصادق الصايم ديمة، الذي يحكي محمود عن علاقته به ويقول بأنه يعتبره (والده الروحي)، ولعل علاقة محمود الوطيدة مع الصوفية قد أجابت عن كثير من تساؤلات جمهوره حول هجرانه للغناء في فترة واتجاهه للمديح النبوي الشريف وإنتاجه لعدد من المدائح التي نالت حظها من الانتشار، وأبرزها مدحة: (الناس دي بتحب النبي ومحمود دا بيحب الرسول)، كما أجابت كذلك عن علاقته بإذاعة وتلفزيون الكوثر التي كانت في فترة من الفترات تُحيِّر جمهوره بشدة.
(15)
ولمحمود عبد العزيز وجه آخر لم يُتَح لبعض جمهوره التعرف عليه بعد، وهو وجه إبداعي يخفيه محمود ويحتفظ به لنفسه، حيث يمتلك محمود موهبة مدهشة جداً في الرسم والتلوين والنقش بـ(البوهية)، ويشهد على ذلك منزله الكائن بحي المزاد بحري، والذي يحتضن الكثير من اللوحات التي قام محمود برسمها في أوقات متباعدة، وعن تلك الموهبة يقول محمود: (الرسم يريح أعصابي ويمنحني الوقت للتفكير بهدوء)، وبجانب جزئية الرسم، فمحمود يمتلك عدداً من الهوايات الأخرى المثيرة للجدل وأبرزها تربيته للحيوانات الأليفة وغير ذلك، فهو يعشق تربية الكلاب والأفاعي، وعن هذه الأخيرة حكى لنا الأستاذ إبراهيم حسن مدير المكتب الإعلامي لمحمود قبل سنوات، وقال إن محمود يطلق على تلك الأفاعي أسماء معينة يناديها بها، كما يطلب من أحد الصيادين جلبها له بالمنزل بين وقتٍ وآخر ليلعب معها، وأضاف إبراهيم ضاحكاً: (عندما يكون محمود في مزاج ليلعب مع تلك الأفاعي نغادر كلنا المنزل ويبقى هو وحيداً مع ذلك الصياد).
(16)
قبيل سنوات قامت الدنيا ولم تقعد، وذلك بسبب الأخبار التي ظهرت وهي تفيد بانضمام الفنان الشاب المثير للجدل لحزب الحركة الشعبية، وظهوره مع قياداتها في ذلك الوقت في عدد من الاحتفالات إبان فترة الانتخابات، تلك الأحاديث التي لم يعلق عليها محمود كثيراً، ليفاجئ الجميع مؤخراً وهو يغني في إحدى الاحتفالات الوطنية ضمن حضور كبير من قيادات الحزب الحاكم، وعندما تم سؤال محمود مباشرة عن توجهاته السياسة، قال وبهدوء: (أنا من حزب الشعب… ومن هؤلاء الغلابة)-وأشار إلى بعض الناس العابرين في الشارع آنذاك-!
(17)
شهادات مذهبة في حق محمود عبد العزيز جاءت على لسان أناس لهم وزنهم ومكانتهم الاجتماعية والسياسية والفنية والإعلامية، ومنهم الأستاذ الراحل الكبير محمود أبو العزائم، والذي قال تلك المقولة الشهيرة (سمح الغناء في خشم محمود)، إلى جانب الراحل الفريق إبراهيم أحمد عبد الكريم والذي قال في وقت سابق: (حينما يذكر الفن في الوطن العربي يذكر عمرو دياب في مصر وفي السعودية محمد عبده، أما في السودان فيذكر محمود عبد العزيز)، هذا إلى جوار عبارة الراحل المقيم الهرم محمد وردي والذي قال قبيل وفاته: (محمود بسمعوهوا أولادي أكتر مني)، وعديد من الشخصيات التي تحدثت عنه فمنحته حقه ومستحقه، ولن ننسى تلك الإشادة التي طوقه بها الفنان الراحل محمد أحمد عوض عندما قال: (هذا الفتى لديه مستقبل كبير)، وذلك بعد أن سمعه يغني في فترة صباه وسط مجموعة من أصدقائه).
(18)
محمود عبد العزيز هو الفنان الوحيد في السودان الذي تم إطلاق أكثر من عشرين لقباً عليه، أبرزها (الحوت/ سيد الغناء/ حوتة/ قائد الأسطول/ الجان/ الحاج/ ملك السودان/ الأسطورة) وغيرها من الألقاب التي تؤكد عظمة هذا الفنان الكبير والذي غادر الدنيا بعد معاناة مع المرض بدولة الأردن الشقيقة، وتمت موارة جثمانه الثرى وسط حضور جماهيري هائل لم يسبق له مثيل في تاريخ الفن السوداني، وبعد أحداث دراماتيكية ومشاهد وثقت لها كل الصحف آنذاك.

بقلم: أحمد دندش

تعليق واحد

  1. رحمت الله عليه وأسكنه فسيح جناته, فنان بمعنى الكلمة .