صادر الأقطان والفساد الخطير
– السودان البلد الغني الفقير – ولاية الجزيرة نموذجاً
في واقعنا المأزوم سياسياً والمضطرب اجتماعياً ومتدهور اقتصادياً بينما تعمل بعض الأيدي الآثمة وذوي النفوس الضعيفة لتخريب الاقتصاد الوطني والإضرار بالوطن والمواطن الذي طالما استبشر خيراً بنجاح الثورة الجماهيرية والآمال المعقودة عليها على نهضة البلاد لتسخير الجهد الرسمي والشعبي لتفجير الطاقات واستغلال الموارد لرفع الإنتاج والإنتاجية، ولكن هناك من يعمل ويسبح عكس التيار الوطني ومصلحة البلاد والعباد لما سيرد من نموذج الفساد في صادر الأقطان في ثنايا هذا المقال.
أذكر أن مدينة ود مدني استضافت ورشة قومية حول الاقتصاد والإنتاج ومعاش الناس وذلك قبل حوالي سبعة أعوام وتميزت الورشة بحضور نوعي كبير وحظيت بنقاش مخلص مستفيض ركزت الورشة على قضية تطوير الإنتاج بتحريك القطاع الزراعي والصناعي والخدمي لخلق فرص عمل ولتوفير السلع والخدمات بأسعار في متناول المواطن البسيط ورفع المعاناة في المعيشة والتي استحكمت الآن ومع مرور السنين وضاقت حلقاتها وفي معرض تعليقه على المداخلات التي تناولت مشكلة تدهور الإنتاج عبر الورشة المشار إليها خاصة بمشروع الجزيرة العملاق وخروج المئات من المشروعات الصناعية عن دائرة الإنتاج بولاية الجزيرة وعلى سبيل المثال المنطقة الصناعية بمارنجان والتي تضم مصانع الغزل والنسيج – معاصر الزيوت – السلع الغذائية – الصابون – مواد البناء – مطاحن الغلال وغيرها والتي كانت توفر فرص عمل لأكثر من خمسة عشر ألف مواطن إلى جانب عدد مماثل من مواطني المدينة وما حولها كانت المصانع توفر لهم فرص عمل غير مباشرة ومصادر كسب من أنشطة مرتبطة بتلك الصناعات وحين تعطلت تلك المصانع مما أدى لفقدان هؤلاء مصدر رزقهم إضافة إلى أكثر من سبعة آلاف مواطن فقدوا وظائفهم بمشروع الجزيرة والآثار السالبة جراء ذلك على موارد الولاية، ويحضرني في هذا تعليق رجل الأعمال الشهير الدكتور سمير أحمد قاسم رئيس لجنة الحوار المجتمعي آنذاك بأن تعطيل الموارد هي المشكل الذي يواجه البلاد وذكر أنه مثل السودان في أحد المؤتمرات الاقتصادية في إحدى الدول الأوروبية ولما عرف نفسه كسوداني تقدم نحوه بعد انتهاء الجلسة أحد المؤتمرين من هولندا قائلاً له ما معناه: (أنت من السودان الدولة الغنية الفقيرة) ولقد صدق الرجل لأن السودان الغني بموارده الضخمة والمتنوعة كانت تصل فيه نسبة الفقر آنذاك إلى حوالي 46% ووصلت الآن إلى أكثر من 85% كما بلغ التضخم أرقاماً فلكية قدر الخبراء أنها قد شارفت 700%.
يحدث هذا بعد مضي أكثر من سبعة أعوام من انعقاد الورشة المشار إليها آنفاً حيث ازداد الموقف ضغثاً على إبالة خاصة خلال العامين الماضيين بعد الثورة الجماهيرية والتي اقتلعت فساد النظام البائد وأوقفت إهدار أموال ضخمة كانت تصرف على هياكل السلطة والحزب والمنظمات الداعمة للنظام من اتحادات ونقابات وهيئات وجمعيات وغيرها وعلى الرغم من كل ذلك لم يشعر المواطن بأي تغيير للأحسن، بل للأسوأ وليس أدل على ذلك من تصاعد حدة الفقر وارتفاع التضخم إلى أرقام فلكية كما أشرنا إلى ذلك، وبالطبع لم تفلح حكومة الدكتور حمدوك في وضع حلول لإيقاف التدهور دع عنك الحديث عن التطور للأحسن على الرغم من التكرار الممل عن رفع اسم السودان من الإرهاب وعودته إلى محيطه الدولي وما إلى ذلك من الروايات المرفوعة لدغدغة مشاعر المواطنين لا سيما الشباب الثائر والذي علق آماله على حكومة الخبير الدولي دكتور حمدوك والتي أحيطت بما يشبه القداسة بحيث لا يجوز نقدها أو الاقتراب والحديث عنها ولو من باب النصح المخلص وقد تبخرت المؤتمرات الأوروبية لمساعدة البلاد ولم تقدم شيئاً نافعاً ولو حتى مجرد قروض عاجلة تحتاجها البلاد حتى تستفيد من عائدات مشروعات قائمة ومتعثرة وعلى سبيل المثال ميناء بورتسودان الذي هو في حاجة ماسة لآليات ترفع نسبة الأداء لتعظيم الإيرادات التي تدنت لأقل من 30% وأصبح دخل الميناء من العملات الحرة دخلاً سالباً نظراً لأن تدني الأداء يكبد البلاد خسائر دولارية تعادل أضعاف دخل الميناء مقابل غرامات تأخير السفن فضلاً عن تصاعد أجور نقل الحاويات لميناء بورتسودان حتى وصل نولون الحاوية الصغيرة (20) قدم إلى 12 ألف دولار بدلاً من ألفي دولار خلال عامين مضيا، كما أن البنك الدولي لم يقدم أي قروض إيجابية مقدرة لتحريك الاقتصاد والذي يصر على تطبيق فاتورته (الروشتة) برفع الدعم عن السلع الضرورية وعادة ينتج عن ذلك الضغط على الحكومات وإفقار الشعوب كما أنه لم يقدم مساعدة أو مجرد النصح لتنظيم وضبط صادرات البلاد بالتزام الجودة والتقيد بالبروتوكولات وقفل منافذ التهريب وكشف أساليب التلاعب في صادرات البلاد ولديّ مثال حي عن واحدة من أساليب التلاعب الخطيرة في صادر الأقطان بوجود تواطؤ ما بين أحد المصدرين وأحد المحالج بولاية الجزيرة لكبس القطن من غير حليج (زهرة) وتصديره باعتباره قطناً محلوجاً حتى يستفيد المصدر من عائدات البذرة حيث تتم عملية حلج القطن خارج البلاد ويقوم المصدر بتوريد عائد صادر القطن وفي ذات الوقت يقوم بتجنيب عائد البذرة بالخارج لصالحه وبحوزتي معلومات من مصادر موثوقة بوجود رسالة من هذا القطن بمخازن بورتسودان معدة للصادر وبالتأكيد أن مثل هذا التلاعب يحدث في سلع الصادر الأخرى ولو أحكمنا مواردنا لسنا في حاجة إلى البنك الدولي (وثمراته) القليلة الداعمة للاستهلاك بدلاً من دعم الإنتاج بالآليات والمعدات ولا يخفى على خبراء البنك الدولي أن تطوير صادر الضأن وحده للمملكة العربية السعودية يغطي فاتورة استيراد المواد البترولية.
وبعد هذه المقدمة الضرورية نعود لموضوع المقال عن ولاية الجزيرة كنموذج للسودان البلد الغني الفقير..
لقد سبق أن أطلقت منظمة الزراعة والأغذية العالمية (الفاو) شعار (السودان سلة غذاء العالم) وأن المنظمة تعلم تماماً أن الأمر ليس مجرد شعارـ بل هو حقيقة ناصعة تحدث بها إمكانيات طبيعية مهولة وأن الزراعة حقيقة هي كنز السودان الذي لا ينضب ومعينه الذي لا ينفذ إلا أن هذا الكنز الثمين لا يزال ينتظر من يخرجه من سطح الأرض وولاية الجزيرة تتمتع بنصيب وافر من هذا الكنز فهي تضم مشروع الجزيرة والمناقل العملاق الذي يعد أكبر المشاريع الزراعية في العالم تحت إدارة واحدة إضافة إلى أن أكثر من 65% من مساحة مشروع الرهد الزراعي تقع بأرض الجزيرة فضلاً عن وجود العديد من المشروعات الزراعية الأخرى والأرض الخصبة أكثر من سبعة ملايين فدان مع وفرة المياه ومن عدة مصادر، كما تتوفر بالجزيرة ثروة حيوانية هائلة تقدر بأكثر من عشرة ملايين رأس من الأبقار والضأن والماعز والإبل، كما تضم مراعي طبيعية واسعة ومنتشرة أكثر من 1.5 مليون فدان فضلاً عن تمتع الولاية بثروة سمكية مقدرة بالنيل الأزرق هذا إلى جانب الموارد المعدنية التي تزخر بها الولاية ويحضرني في هذا الشأن مبادرة وزير الزراعة الأسبق المهندس عبد اللـه محمد عثمان وهو من أبناء مشروع الجزيرة والذي قاد وفداً نوعياً من الجزيرة قبل حوالي عشرة أعوام ضم الوفد أكثر من 40 شخصاً يمثلون كافة وحدات وزارة الزراعة إلى جانب ممثلين لقيادات المزارعين بمحليات مدني الكبرى – الحصاحيصا – الكاملين – شرق الجزيرة وجنوب الجزيرة وشخصي الضعيف ممثلاً لصحيفة (الجزيرة اليوم) للتعرف على تجربة مشروع كراون الزراعي بمنطقة التراجمة محلية شندي ولاية نهر النيل وجدنا أنفسنا في واحة خضراء وسط صحراء من الكثبان الرملية حيث الحقول التي شكلت لوحة بديعة من المحصولات المتنوعة.. الشاهد في الأمر أن تلك الأرض المخضرة كانت عبارة عن تلال وكثبان رملية ظلت أرضاً بلقعاً لمئات السنين بذلت الشركة مجهوداً كبيراً في استصلاح الأرض استمر لأكثر من عام وطبقت الشركة أحدث التقانات في الري والميكنة الزراعية وتروى أرض المشروع من الآبار ومن خلال استخدام التقانات الحديثة كما أشرت آنفاً فإن البئر الواحدة تروي مائة فدان بدلاً من ري عشرة أفدنة فقط بالري التقليدي وتمت زراعة أكثر من عشرين محصولاً منها القطن – القمح – زهرة الشمس – الفول السوداني – قصب السكر والأرز الهوائي إلى جانب الخضروات وغيرها وعرفنا أنها حققت معدلات عالية في الإنتاج والإنتاجية ولفت انتباهي أن وزير الزراعة بالجزيرة كان قد حرص على اصطحاب كل مكونات وزارته ليتعرف كل في مجاله فمثلاً في مجال التربة التعرف على الأسلوب الحديث الذي طبقته الشركة في استصلاح الأراضي وكذلك التعرف على نظم الري الحديث حيث استخدمت الشركة أسلوب الري بالتنقيط وكذلك التعرف على مجالات الصناعات التحويلية وطرق تقشير وتبييض الأرز واستخلاص السكر من القصب والزيوت من الحبوب الزيتية بوسائل حديثة مبسطة وتقنية حزم الأعلاف ولكن الأهم ما لمسته شخصياً من هذه المبادرة أن الوزير كان يهدف في المقام الأول أن يقف ملاك الأراضي بالجزيرة على هذه التجربة الفريدة والتعرف على الجهد الكبير الذي بذل في استصلاح الأرض التي ظلت بلقعاً لمئات السنين كما أسلفت لعدم صلاحيتها للزراعة في الوقت الذي توجد فيه مساحات شاسعة صالحة وجاهزة مباشرة للزراعة بولاية الجزيرة لاسيما على ضفتي النيل الأزرق حيث تتوفر أكثر من 500 ألف فدان وظلت هذه المساحات الظاهرة للعيان معطلة لا ترى فيها إلا شجيرات مبعثرة هنا وهناك إلى جانب مزروعات متواضعة.. كان بكل بساطة أن تقام عليها مئات المشاريع على نمط مشروع كراون الزراعي بشندي والفرق أن أراضي الجزيرة لا تحتاج إلى استصلاح وإنما تحتاج لمن يفلحها كشف لنا مدير مشروع كراون وفي إفادته عن التكاليف أنه ومن خلال زراعة 20 فدان (عشرون فدان فقط من البرسيم) من مقدار مساحة المشروع (200) ألف فدان تمت زراعتها بمحصولات أخرى يتم تصدير البرسيم للخارج ومن عائده تتم تغطية كافة منصرفات المشروع وأضاف مؤكداً أن الشركة شرعت في استصلاح مساحة إضافية للمشروع من تلك الكثبان الرملية ولاحظنا أن الشركة توفر كل احتياجات العاملين بالمشروع من الخبز والسكر والزيوت والأرز والألبان ومشتقاتها من إنتاج المشروع.
لقد مضت حوالي عشرة أعوام ولم تتم الاستفادة من هذه التجربة المبهرة ولو أقدمت ولاية الجزيرة لقيام مشروعات على نمط مشروع كراون على ضفتي النيل الأزرق من بتري شمالاً وحتى ديم المشايخة جنوباً شرقاً وغرباً لأصبحت الولاية أكبر منتج على الأقل للخضر في أفريقيا إلى جانب المحصولات الغذائية الأخرى التي تغطي احتياجات الولاية والولايات المجاورة والعاصمة القومية من زيوت الطعام والألبان ومشتقاتها واللحوم جراء تسمين الماشية بدلاً من استجلاب تلك المنتجات من مناطق أخرى ويا للعار فإن ولاية الجزيرة تستورد البصل والبطاطس وبعض الخضر من ولايات أخرى.
مصطفى الجيلي هواجة
صحيفة اليوم التالي