منى عبدالفتاح تكتب الجيش السوداني… هل هو جزء من الدولة العميقة؟
يحاول الجيش السوداني استعادة مكانته التي ضعضعتها الحكومة في ظل النظام السابق، عندما قربت جهاز الأمن وقوات الدعم السريع والحركات المسلحة، ومنحتها من الصلاحيات ما يفوق ما قدمه الرئيس السابق عمر البشير للمؤسسة التي أتى منها إلى الحكم. كل ذلك بغرض المحافظة على موقعه ضد عدد من المحاولات الانقلابية. لذلك، حاول الجيش كسب المتظاهرين ضد البشير في احتجاجات ديسمبر (كانون الأول) 2018، وفتح ميدان القيادة العامة للقوات المسلحة أمام المعتصمين، قبل حادثة فضها. ثم فتح الجسور أمام مواكب الاحتفال بالذكرى الثالثة للثورة، يوم 19 ديسمبر. وكان قد أعلن عن إغلاقها قبل الحدث بيوم. ثم وقف مع القوى الثورية في محيط القصر الرئاسي. ولا يزال يحاول تبرئة موقفه من اتهامه بأنه تابع للدولة العميقة، محاولاً الاتساق في المواقف ومبعداً التصورات بأنه المتحكم الوحيد في السلطة.
آثار التجارب
في تجارب الحكومات العسكرية السابقة، كانت السيطرة على الحكم مبنية على القواعد الاجتماعية التي تبرز نماذج فئات معينة مثلتها نقابات عمال المصانع والفلاحين. ولهذه الفئات بعد اشتراكي ظهر بجلاء في الحكومة العسكرية الأولى بعد الاستقلال، وهي حكومة الفريق إبراهيم عبود. إذ كانت تلك الفترة متأثرة بموجة حركات النضال ضد الاستعمار في القارة الأفريقية. أما في حكومة جعفر النميري فقد كانت سطوة الحزب الشيوعي كبيرة. وعند خلاف النميري مع مجموعة الضباط الذين قاموا بالمحاولة الانقلابية عليه، شن العداء على الحزب الشيوعي، وتقرب من الإسلاميين، وكون الاتحاد الاشتراكي الذي جمع بين فكرة الاشتراكية العالمية والإسلامية، ومنح الجيش مكانة خاصة في ديباجة الحزب، وهي أن “تكون قوات الشعب المسلحة حاملة لواء الدفاع عن الوطن قومية يحكمها القانون، ويتطلب ذلك إعادة هيكلتها وتنظيمها وتسليحها وتدريبها، وأن تكون قوات الشرطة حاملة لواء بسط الأمن الداخلي وساعداً لرئيس القضاء في إقامة العدل، وأن تتوحد أجهزة الأمن في مؤسسة قومية واحدة تعمل لتأمين الوطن من دون انحياز لأي طرف”. ثم جاءت الحكومة العسكرية بعد انقلاب 1989 المسنودة بالإسلاميين، والمنشقة عنهم بعد ذلك. هذه التجارب أبعدت الجيش السوداني من استقلاليته التامة، ووضعته في معضلة أن يكون دائماً ضمن قالب قوى سياسية رديفة. ولم يظهر هذا العيب بشكل واضح إلا بعد ثورة ديسمبر، فوجد نفسه بعيداً من حاضنته خلال ثلاثين عاماً وفي مواجهة قوى سياسية كثيرة ولكنها ضعيفة ومتنافرة تمثلت في إعلان “قوى الحرية والتغيير”. وهو ما أفرز الوضع الحالي في السؤال الدائم هل الجيش منحاز أم مستقل؟ وإذا كان منحازاً فلمن، في ظل عدم وجود كيان سياسي واضح وقوي.
ثنائية متنافرة
كانت قوانين القوات المسلحة تحظر قيام أي قوى عسكرية أخرى غير الجيش الوطني، واعتبار أي حركة مسلحة قوات متمردة. ولكن، مهد للتغيير الكبير الذي حدث بعد ذلك، السماح باستيعاب القوات الموازية، اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) عام 2005 والشراكة في الحكم بتعيين قائد “الحركة الشعبية لتحرير السودان” وقواتها، جون قرنق، نائباً للرئيس السابق البشير. وآل المنصب بعد مقتله في حادثة تحطم مروحيته إلى نائبه سلفا كير ميارديت، إلى حين انفصال جنوب السودان إلى دولة مستقلة عام 2011. وبعد محاولات انقلابية عدة ضعضعت ثقة نظام البشير في مؤسسة الجيش، ألحقت قوات الدعم السريع بقرار جمهورى في 21 أبريل (نيسان) 2016، برئاسة الجمهورية. ولم تكن هذه هي المحاولة الوحيدة لإضعاف الجيش، إنما كانت المؤسسة في خضم صراع آخر مع جهاز الأمن لم يظهر للرأي العام إلا بعد الهجوم الذي نفذته “حركة العدل والمساواة” على مدينة أم درمان ومحاولة قواتها دخول الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون في مايو (أيار) 2008. فظهرت قوات الأمن بمعداتها وقادتها إلى العلن متبنية إدارة المعركة، وموصلة رسالة مفادها أنها مؤسسة موازية لا تقل أهمية عن الجيش. وإن كان الجيش يترفع عن الانتماء الحزبي والأيديولوجي ويحافظ على قوميته وتمثيله فئات وإثنيات متنوعة، فإن مؤسسة الأمن أظهرت انتماءها الصارخ لـ”حزب المؤتمر الوطني”.
تبنى الجيش سياسات لا تقبلها القوى المدنية، فلو أتيح له نجاح الانقلاب والسيطرة منفرداً على السلطة سيخلق فوراً أحزاباً سياسية تابعة له، لأن استبعاد الأحزاب الموجودة حالياً صعب في ظل الاستقطاب والتعبئة السياسية التي ظلت تمارس منذ قيام الثورة. وفي الوقت ذاته، ثمة أحزاب، مثل “الشيوعي” و”البعث”، تحاول فرض رؤيتها. فأحست مؤسسة الجيش بأنها تخضع لعملية إبعاد عن الشعب، خصوصاً أن تدجين الجيش خلال عهد النظام السابق عمق الهوة بينه وبين المواطنين.
العسكر والنخبة
هنالك عوامل من شأنها تعريف المسار الذي سارت به الأحداث منذ اندلاع ثورة ديسمبر. العامل الأول أن النخبة السياسية اتفقت على استخدام الجيش صلاحياته وتنفيذ خططه للحفاظ على الأمن والسلام. والعامل الثاني هو احتمال استيلاء الجيش على السلطة. لذا، بقيت هذه القوى في حالة توجس من التحركات، ما أدى إلى استنفار صراعات وتضارب من داخل هذه النخبة والتحول من حالة الاتفاق إلى المواجهة وما نتج عنها من تحركات عدائية واستهداف كل منهما الآخر. أما العامل الثالث فهو أن “قوى الحرية والتغيير” بدأت صوغ دور يمكنها من صنع القرار من دون أن تظهر في الواجهة بكامل كيانها. لم تنحسر قدرة الجيش على التحكم في سائر العملية السياسية واستيلاد قوته التقليدية المضادة لخطاب القوى السياسية الذي تحول من الشراكة إلى الإقصاء. ولكن، عند النظر إليها من هذه الزاوية، نجد أن متطلبات القوى المدنية والعسكرية بارزة في الوثيقة الدستورية، ولكنها غير محسومة تماماً. مع ذلك، لم تجد المتطلبات القومية اهتماماً موازياً.
في الوقت الذي يحتاج فيه الطرفان إلى الوعي اللازم بتكاليف هذا الصراع، تتخوف المؤسسة العسكرية من تعرض بعض أفرادها للمساءلة في المحكمة الجنائية الدولية. لذلك، رفضت تسليم الرئيس السابق عمر البشير وعدد من المطلوبين، متمسكة بمحاسبتهم عبر القضاء الوطني. وقد يكون موقف العسكر ومرؤوسيه أفضل من موقف البشير، إذ وقع عليهم إطاعة أوامره حسب نص المادة الثالثة والثلاثين من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الذي يعد تطبيقاً للمبادئ العامة للقانون المعترف به في الأمم المتحدة، وكان “يخول للمحكمة السلطة التقديرية قبول الدفع أو رفضه وفقاً لظروف وملابسات المتهم في هذه الحالة”. إلا أنه تم تعديل مشروع القانون ليستبعد إدراج الأوامر العسكرية أو الاعتداد بها كظرف مخفف للعقوبة خشية إفلات عدد كبير ممن تنطبق عليهم هذه الحالة، خصوصاً في الحكومات العسكرية في أفريقيا وغيرها.
واقع جديد
حاولت “قوى الحرية والتغيير” والمحرك الخفي لها الحزب الشيوعي السوداني تغيير العلاقة العضوية التي تربط الجيش بأي قوى سياسية أخرى. وقد نجحت إلى حد ما في خلق واقع جديد وضبابي ومتأرجح نتج عنه عداء بين المكونين المدني والعسكري في أروقة السلطة. ولكن، ظل التحام الجيش بالجماهير في المواكب وحشود الاحتجاجات جنباً إلى جنب مع القوى الثورية التي تهتف برفض حكم العسكر. وفي الوقت الذي يحاول فيه العسكر أن يكونوا محل السياسيين التقليديين بحكم أنهم أداة الوصل بين المجتمع والدولة ومؤسساتها، تحاول “قوى الحرية والتغيير” تنحيته عن موقعه. فظهرت هذه الموجة من الانقلابات المضادة وتأثرت قدرة العسكر على التحرك بمعزل عن فوضى الوضع السياسي. وطوال السنوات الماضية، حرصت “قوى الحرية والتغيير” على خطاب تمييزي في مجلس السيادة الانتقالي بين العسكريين والمدنيين. أما موقع الزعامات التقليدية، فقد ظل بعيداً من هذا الحراك. فأخذت تفقد دورها الوسيط على أثر نفاذ القوى السياسية الأخرى. وبقي التركيز على ثنائية عسكر ومدنيين، بينما خرجت المؤسسات الفاعلة في المجتمع التي كانت ترتبط بالجيش في معظم الأوقات.
تخشى “قوى الحرية والتغيير” حل الأحزاب السياسية المنظمة وتأسيس حزب واحد بدلاً منها، أو حكومة وفاق تدمج فيها الأحزاب السياسية، كما حدث في عهد البشير. بالإضافة إلى السيطرة على وسائل الإعلام. وذلك مقرون بحديث العسكر أنفسهم عن ضرورة تنظيم الانتخابات بعد انتهاء الفترة الانتقالية. ما جعل هذا السيناريو بعيداً من التحقق، هو أن المحاولات الانقلابية الفاشلة كشفت خللاً في المؤسسات الرسمية للدولة، بما فيها الجيش، ووجوده كأحد أضلع الدولة العميقة ولكنه يعاني مشاكل تنظيمية وعدم ثقة داخلية. عمل ذلك في اتجاهين، الاتجاه الأول هو تحفيز القوى السياسية على تصور خطورة استيلاء الجيش على السلطة، وكانت المحاولات الانقلابية جرس إنذار. أما الاتجاه الثاني فهو ضعف قدرة الجيش على التحرك من دون سند سياسي، وطالما أنه لا يقوم على أساس القواعد الديمقراطية، فمن الصعب توقع حرصه على إقامة نظام ديمقراطي بديل منه.
صحيفة السوداني