مقالات متنوعة

خيرالله خيرالله يكتب عسكر السودان باتوا يعرفون حدودهم .. ماذا بعد الاتفاق السياسي؟

ماذا بعد الاتفاق السياسي الذي أعاد عبدالله حمدوك إلى موقع رئيس الحكومة؟ سيطرح هذا السؤال نفسه بإلحاح في الأسابيع القليلة المقبلة لا لشيء سوى لأن على كل طرف من الجانبين إيجاد صيغة تعايش مع الآخر.

أدرك العسكر حدود ما يستطيعون عمله
يبدو الاتفاق السياسي الذي توصّل إليه العسكريون والمدنيون في السودان أقرب إلى تسوية مؤقتة لم يكن في استطاعة أيّ من الطرفين تفاديها. لا غنى للعسكر، وعلى رأسهم عبدالفتاح البرهان، عن المكوّن المدني ولا غنى للمكوّن المدني ممثلا برئيس الوزراء عبدالله حمدوك عن العسكر. تبيّن أنّه لا يمكن لأيّ حكم مدني أن يستمرّ، أقلّه في المرحلة الراهنة، من دون تغطية من العسكر الذين تحولوا إلى حاجة سودانيّة في ضوء فشل تاريخي في إقامة نظام سياسي قابل للحياة وذلك منذ الاستقلال في العام 1956.

أجبر المجتمع الدولي كبار العسكريين على إعادة حمدوك إلى موقع رئيس الوزراء. اكتشف هؤلاء أنّ ليس في استطاعتهم الاستيلاء على السلطة وتكرار تجربة عمر حسن البشير التي استمرت ثلاثة عقود. غيّرت تلك التجربة في عمق السودان، خصوصا أنّ البشير كان مستعدا، من أجل الاحتفاظ بالسلطة، لعمل كلّ ما هو مطلوب منه. شمل ذلك الاستفتاء على انفصال جنوب السودان الذي صار دولة مستقلّة منذ التاسع من تموز – يوليو 2011. لجأ في مرحلة معيّنة إلى القمع الوحشي في ولاية دارفور مستخدما الجنجويد. لكنّ الأهمّ من ذلك كله ذلك التغلغل للإسلاميين، من تنظيم الإخوان، في كلّ مرافق الدولة. من دون المؤسسة العسكرية، ليس ما يضمن عدم عودة جماعة البشير إلى السلطة. الواضح أنّ العسكر في السلطة يمنعون انقلابا عسكريّا جديدا.

◄ يبحث السودان عن مستقبل أفضل. إذا كان من درس يمكن تعلّمه منذ العام 1956، فإنّ هذا الدرس يتمثل في الحاجة إلى صيغة جديدة تضمن نوعا من التوازن بين المكوّن المدني من جهة والعسكر من جهة أخرى

لولا كبار الضباط، وفي مقدمتهم البرهان ومحمّد حمدان دقلو (حميدتي)، لما كان البشير تنازل عن السلطة بسهولة وذلك على الرغم من الثورة الشعبيّة التي واجهت حكمه، وهي ثورة استمرّت أشهرا عدّة. أثبت المجتمع المدني السوداني قدرة على الصمود والمواجهة. لكنّ ما لا مفر من الاعتراف به أنّ المكوّن العسكري حسم الأمر في نهاية المطاف وتفادى مجازر في الشوارع كان الدكتاتور المخلوع مستعدا لارتكابها من أجل البقاء في السلطة. أكثر من ذلك، لعب البرهان ورفاقه دورا في تمكن السودان من العودة إلى الأسرة الدوليّة وتغيير طبيعة الموقع الإقليمي للسودان في المنطقة والعالم بدءا بالتوقّف عن ممارسة لعبة الابتزاز التي أتقنها البشير.

ماذا بعد الاتفاق السياسي الذي أعاد حمدوك إلى موقع رئيس الحكومة؟ سيطرح هذا السؤال نفسه بإلحاح في الأسابيع القليلة المقبلة، لا لشيء سوى لأنّ على كلّ طرف من الجانبين إيجاد صيغة تعايش مع الآخر. يدرك العسكر أنّ لا مساعدات دوليّة من أيّ نوع من دون حكومة مدنيّة من جهة وأنّ حمدوك مازال يتمتّع برصيد لدى المؤسّسات المالية العالميّة مثل البنك الدولي وصندوق النقد من جهة أخرى. ليس في الولايات المتحدة أو أوروبا من هو مستعدّ لمساعدة السودان في حال العودة إلى حكم عسكري أكان رأسه البرهان أو غير البرهان.

في المقابل، تحتاج المنطقة، خصوصا منطقة وادي النيل والبحر الأحمر والقرن الأفريقي، إلى سودان مستقرّ. فشل السياسيون السودانيون في تأمين مثل هذا الاستقرار. أثبت البرهان أنّه يمتلك ما يكفي من الشجاعة، ليس لردع أنصار البشير ومنع عودتهم إلى السلطة فحسب، بل في إقامة علاقات من نوع جديد مع دول المنطقة أيضا، بما في ذلك مع مصر ومع دول الخليج العربي. علاقات مبنيّة على الثقة المتبادلة أوّلا.

يبحث السودان عن مستقبل أفضل. إذا كان من درس يمكن تعلّمه منذ العام 1956، فإنّ هذا الدرس يتمثل في الحاجة إلى صيغة جديدة تضمن نوعا من التوازن بين المكوّن المدني من جهة والعسكر من جهة أخرى. لم يأت البشير من فراغ. أتى من فشل الأحزاب السياسيّة في مرحلة ما بعد سقوط جعفر نميري في العام 1985. شهدت تلك المرحلة عودة إلى الحكم المدني. لكنّها شهدت أيضا فوضى سياسيّة ما لبث أن استغلّها حسن الترابي، الذي كان واجهة للإخوان المسلمين ولمجموعة من الضباط الذين يسيرون في هذا التوجّه. ما لبث البشير أن انقلب على الترابي في لعبة لا أفق لها سوى السلطة.

◄ أجبر المجتمع الدولي كبار العسكريين على إعادة حمدوك إلى موقع رئيس الوزراء. اكتشف هؤلاء أنّ ليس في استطاعتهم الاستيلاء على السلطة وتكرار تجربة عمر حسن البشير

من الواضح أنّ العسكر اكتشفوا حدود ما يستطيعون عمله، أي أن يكونوا غطاء للمدنيين. اضطروا إلى إعادة حمدوك إلى موقع رئيس الحكومة. أدركوا أن ليس في استطاعتهم الذهاب بعيدا في انقلابهم. سيكتفون في المرحلة المقبلة بإثبات أنّهم الطرف القادر على اتخاذ قرارات كبيرة وحمايتها. هذا يعني بكل بساطة أن عليهم الاعتراف بأنّ العالم ليس مستعدا لإعطائهم شيكا على بياض في غياب الشراكة مع المدنيين الذين عليهم واجب إعادة الحياة إلى الاقتصاد الذي يعاني من حال يرثى لها.

ما الصيغة الجديدة للتعايش بين العسكر والمدنيين في السودان؟ قد يكون السؤال الأهمّ هل من أمل في إيجاد مثل هذه الصيغة، خصوصا في ظلّ التجاذبات بين المدنيين أنفسهم. أدرك العسكر حدود ما يستطيعون عمله. يُفترض في المدنيين إظهار استعدادهم لتقبل وجود توازن معيّن في البلد. يبدو أنّ حمدوك متفهم لهذا الوضع ولهذه المعادلة الدقيقة التي يمكن أن تهيّئ لمرحلة جديدة تغني عن سقوط السودان في مرحلة جديدة من المماحكات الداخليّة التي لا طائل منها. فهم العسكر أين حدودهم. أكثر ما فهموه أن تجربة البشير لا يمكن أن تتكرّر، كذلك تجربة نميري. لا وجود في العالم، حتّى في أفريقيا من هو مستعد لتقبل انقلاب عسكري جديد. لكنّ على المدنيين في السودان التحلّي بالحكمة والاقتناع بأنّ تقاسم السلطة مع العسكر ضروري في هذه المرحلة التي يمر فيها السودان والمنطقة كلّها. سيتوجب على المكون المدني في السودان إثبات أنّ ثمة شيئا غير الشعارات في هذا العالم وأنّ الحاجة أكثر من أيّ وقت إلى إثبات نضج سياسي في بلد مهدّد في كلّ وقت بدخول حال من التفتت.

صحيفة السوداني