مقالات متنوعة

البرهان والبشير و(حوار) الأيادي المُضرجة بالدماء

عشية وغداة ، انقلاب قائد الجيش السوداني ، الذي استخدم (قوات الشعب المسلحة)، وأجهزة عسكرية وأمنية ، لتنفيذ المؤامرة ، أطلق الفريق عبد الفتاح البرهان ومعسكر السلطة الانقلابية ، دعوات لترويج ما سموه ( حوارا يشمل الجميع).
هاهي الأصوات، مُنفذة الانقلاب، وأخرى ساهمت بالتهيئة السياسية، وتدعمه ، تملأ الفضائيات، هذه الأيام، بمغالطات، وتناقضات ، و تبريرات، لجريمة الانقلاب ، وما يستغرب أنهم يتحدثون عن (تصحيح مسار الثورة) وهم من أسقطت الثورة نظامهم، ويلاحظ أنهم يركزون على دعوات (الحوار)، بادعاء الحكمة، وكأنهم لا يرون أن سمة نظامهم، الجديد، البارزة، دموية، وينسون أنهم نسفوا، بالانقلاب ،الحوار، الذي كان ممكنا.
أحدث دليل أن الانقلابيين، أزهقوا – والسلطة في يد الديكتاتوريين الجدد – في يوم واحد، خلال تظاهرات 17 نوفمبر الجاري ، 15 روحا، شابة وحيوية ، من البنات والبنين، بدم بارد، وهي في ريعان الشباب، وجرحوا عشرات، وفقا للجنة أطباء السودان المركزية، التي تلعب دورا مهما ومواكبا للأحداث ، ولهذا يحاربونها في شدة، ويعتبرونها جسما هلاميا.
هذا يعني أن الأيدي التي تمسك بكرسي السلطة، مضرجة بالدماء، وتتحمل مسؤولية ( الحوار ) الدموي، مع المتظاهرين، السلميين، في غياب نهج حضاري، ، يحترم حق الناس، في التظاهر، السلمي ، بعيدا عن آلة القمع، القتل، في يوم كان من المُقرر أنه يُسلم فيه البرهان رئاسة مجلس السيادة للمدنيين، لكنه تمنع، وتقوى بالانقلاب.
في ضوء هذه المواجع، أقول إن الدعوة، المُخادعة، إلى ( الحوار) ليست جديدة، فقد كررها البرهان، منذ أن قفز إلى كرسي الحكم في العام 2019، بعدما رفضت الجماهير في (اعتصام القيادة) تولي الفريق عوض ابن عوف مقاليد السلطة، عقب اطاحة الرئيس المخلوع عمر البشير.
قائد الانقلاب تحدث عن ( الحوار)عشية جهود كانت مبذولة لتشكيل الحكومة الانتقالية ( الأولى) التي جاءت بعدما هزت ( المكون العسكري) مليونية 30 يونيو 2019، التي ردت على مجزرة ( الإعتصام) أمام مقر قيادة الجيش في3 يونيو من العام نفسه.
قال آنذاك، بعدما الغى اتفاقا مع ( قوى الحرية والتغيير) أنه يسعى إلى تشكيل حكومة ( تشمل الجميع) و( الجميع) هي عبارة جرى استخدامها لابتزاز قوى التغيير في زمن الحراك الثوري، ولممارسة الضغط عليها، وفي الوقت نفسه كان يغازل جهات أخرى، لكنه لم يستطع، آنذاك، أن يكشف أن عينه على عناصر من نظام الرئيس المخلوع عمر البشير( الحركة الإسلامية) ويسميهم السودانيون (الكيزان).
الدليل على النية المُبيتة، أن السلطة الانقلابية، الحالية، أعادت سريعا وجوها من ( الأخوان المسلمين) إلى مواقع المسؤولية في بعض مواقع العمل، وهناك من يعمل خلف ستار، كما فتح الانقلابيون شاشة تلفزيون السودان لوجوه معروفة من ( الفلول).
الانقلابيون ،وبعض مروجي دعوات ( الحوار) أو ( المبادرات) يطلقون دعواتهم من دون تحديد هوية المعنيين بـ (الجميع) ، وهكذا فعل نظام عمر البشير في أيامه الأولى، لإخفاء الجهة التي استولت على السلطة وهي( الجبهة القومية الإسلامية) وجاءت تسجيلات بثتها قناة ( العربية) لتكشف اعترافات البشير و رموز من نظامه، في اجتماعات سرية، إذ قال رئيسهم المخلوع أنهم (يتحكمون في كل مفاصل الدولة) وهكذا سارع قادة الانقلاب الحالي، باقالة مسؤولين وإعادة (تمكين) لوجوه التمكين القديم .
أعُيد للأذهان أن نظام (الجبهة القومية الإسلامية )بعدما انقلب على نظام ديمقراطي في 30 يونيو 1989 لجأ إلى خدعة في إطار مسلسل تمويه، بدأه منذ أيامه الأولى، إذ عقد الإنقلابيون، وهم حزبيون، ويزعمون حتى الآن أنهم ضد الحزبية، مؤتمرا في السادس من أغسطس 1990سموه (مؤتمر الحوار القومي حول النظام السياسي) وأقر صيغة ( المؤتمرات الشعبية) كأنهم كانوا يغازلون الرئيس الليبي السابق معمر القذافي.
في عمود أسبوعي، كنت أكتبه، بعنوان ( سودانيات) في صحيفة ( العرب ) القطرية، في مرحلتها الأولى، كتبت بتاريخ 22 أكتوبر 1990 عن ذلك المؤتمر، الخدعة، والنظام الإنقلابي، وقلت إنه أقر صيغة (المؤتمرات الشعبية) وأن السلطة الانقلابية قالت إنه ( يستجيب للمطالب الشرعية للشعب السوداني).
رأيت، في ذلك التاريخ ، أن المؤتمر (لم يكن سوى محاولة لتمرير صيغة متفق عليها ، من خلال حشد أعداد من الناس، لتضفي على وقائعه السمات الشعبية وأبعاد العمل الجماهيري، ليبدو كأنه نابع من تطلعات الشعب) وأشرت إلى أن نظام البشيرالانقلابي، صادر الحريات وألغى المؤسسات السياسية ومنع صدور صحف فور وقوع الإنقلاب.
سريعا، اكتشف السودانيون هوية نظام البشير ( الاخوانية) و لكن لم تتوقف مسلسلات خداع الناس بمسألة ( الحوار) فلجأ وسط أزمة سياسية واقتصادية طاحنة وضغط المعارضة إلى عقد ( مؤتمر الحوار الوطني) في يناير 2014 وقاطعته قوى سياسية وازنة، وكان لافتا أن المؤتمر أصدر توصياته في أكتوبر 2016، وكان مصيرها سلة المهملات، إذ أنه عُقد للاستهلاك المحلي والتضليل وكسب الوقت.
ما أشبه الليلة بالبارحة….
اليوم يخاطب البرهان شعب السودان بلغة تشبه لغة انقلابيي ( الجبهة القومية الإسلامية) الذين سعوا جاهدين لإخفاء نياتهم الحقيقية ولونهم السياسي، فالبرهان يتكلم عن الانقلاب باعتباره ( تصحيحا لمسار الثورة) وأنه يجيء تلبية لتطلعات الشعب، ويردد في لقاءاته مع مسؤولين دوليين كلاما عن ( الحوار) ، وجاء أحدث دليل، في أثناء لقائه مساعدة وزيرة الخارجية الأميركي السيدة مولي في ، إذ قال للمسؤولة الأميركية ( متمسكون بالوثيقة الدستورية وإجراء حوار شامل مع كل القوى السياسية لاستكمال هياكل السلطة الانتقالية، وانجاح عملية الانتقال بالبلاد، وصولا لانتخابات حرة ونزيهة في يوليو 2023).
ممارساته القمعية خلال أيام تكذب هذا الكلام، والإنقلابيون يعرفون أن كلامهم عن (الحوار) لذر الرماد في العيون، أي لحجب الحقيقة والتضليل ، وأنه لا ينبع من وعي وقناعة بقيمة الحوار، الإنساني، الحضاري، وأن (حوار )الانقلابيين، في أي زمان ومكان يهدف إلى فر ض توجهات ديكتاتوريه، وإملاءات، يقبلها الانتهازيون، والوصوليون، وعشاق التبعية، وقد يدعو البرهان إلى مؤتمر حوار، كما فعل البشير، قبل أن يطيح الشعب بقادة الانقلاب الحالي.
المنطق يقول، لا حوار ، في مناخ القمع، وفي ظل إحتكام إلى نهج البندقية ، وفي أجواء انقلابية تختفي، وتموت فيها قيم الحوار الحضاري المحترم، ما يعني أن ( الحوار) الذي يسعى إليه قادة النظام الانقلابي هو حوارُ لفرض الأمر الواقع، أي الإنقلاب وتوجهاته.
يسعى الإنقلابيون، والموالاة، من خلال الضرب على وتر ( الحوار بين كل القوى السياسية) إلى أن نيل الشرعية، والمؤكد أنهم لن ينجحوا في ذلك ،وفقا لتاريخ الشعب السوداني.
حديث قائد الانقلاب عن (الحوار) يرمي إلى زرع خلافات بين شباب يتصدر ساحات النضال السلمي والقوى السياسية والمهنية الرافضة للانقلاب، كما يهدف إلى زراعة خلاف داخل هذه القوى ، لتنشغل بصراعات، أي أنه يسعى إلى الالتفاف على صوت الشارع، المُزلزل للطغيان، ما يستوجب أن تنتبه قوى الثورة والتغيير كافة لهذه المصيدة.
أما (تصحيح مسار الثورة ) فهو عندهم يتم بقتل الشباب بالجُملة ، وقمع تظاهرات سلمية، واعتقالات ، وملاحقات، وكبت حريات، واستهداف واعتقال رئيس الحكومة الشرعية دكتور عبد الله حمدوك، ووزراء، وسياسيين، وناشطين،وأعضاء في (لجان المقاومة) ومهنيين، وبينهم صحافيون، ورفع زملاؤنا ، في وقفة احتجاجية في الخرطوم، لافتات موقف يقول ( الصحافة الحرة باقية .. والطغاة زائلون) و( الصحافة الحرة .. تقف مع الجماهير ضد الانقلاب العسكري) و(لا لاستهداف الصحافيين.. ولقطع الإنترنت.. ولاعتقال الصحافيين).
في هذا السياق، أعيد للأذهان أن الانقلابيين اختطفوا تعبير ( تصحيح مسار الثورة) من شباب ثورة ديسمبر 2018، ومن قوى مهنية وسياسية، لتبرير الانقلاب، ولعل الجميع يذكر، أن الحديث عن ( تصحيح المسار) كان هو أبرز عنوان لـ ( مليونية) في الذكرى الأولى لـ (مليونية 30 يونيو 2019).
تلك المليونية دعت إلى ( القصاص، واستكمال هياكل السلطة، ومحاكمة الفاسدين، والسلام، وتحقيق العدالة) لكن واقع الحال الآن يؤكد أن الانقلابيين لن يحققوا هذه الأهداف ، وأن سرقة شعار ( تصحيح مسار الثورة) يضعهم في مآزق، لأن للشعار استحقاقات، تشمل بسط الحريات والعدالة، ومكافحة الفساد ، وبناء دولة المؤسسات، لا الأفراد، وحماية شباب الثورة، وهم باسلون، جسورون، تعرفهم الشوارع، ويعرف الظالمون ،المتجبرون، صلابتهم .
صمام الأمان في مواجهة أصحاب القلوب القاسية، يكمن في الشوارع، التي جددت التأكيد في 17 نوفمبر 2021 أن سقف الهدف مرتفع – كما قلت في مقال بتاريخ 12 نوفمبر عشية تظاهرات مليونية، حاشدة- وهاهي الشوارع الهادرة أرسلت رسالة موقف إلى الانقلابيين والعالم ،مضمونها ( لا تفاوض ، لا شراكة، لا شرعية ) .
هذا السقف المرتفع في الشوارع سببه البرهان، ونائبه الفريق حميدتي، وأصحاب البيعة، وأذكر هنا أن مهنيين وسياسيين و أعضاء (لجان مقاومة) دعوا في توقيت مبكر، إلى رفض ما سموه ( شراكة الدم)، وتأكد الآن أن تحليلهم وموقفهم كان صائبا.
لعل انقلاب ( المكون العسكري) قدم أحدث دليل على دقة وصواب تحليلهم ورؤيتهم بعيد المدى، وكنت دعوت ،غير مرة ، في مقالات( قوى الحرية والتغيير) إلى إعمال الخيال السياسي تجنبا لسوء العاقبة.
ربما يرى بعض الناس أن سقف الشوارع ، بلاءآته ،مرتفع جدا، لكنه في واقع الحال نتاج تجربة مريرة، ودروس تاريخية ، وأحزان ومواجع من دون حدود، ومن الأدلة شلالات الدم في مجزرة 17 نوفمبر 2021 ، إذ أن ( الشركاء) في (المكون العسكري) تآمروا على ( شركاء مدنيين ) وانقضوا عليهم، في بيوتهم، أمام أطفالهم وزوجاتهم ، ورموهم في معتقلات.
هل من يسفك الدماء، ويعتقل ( الشركاء) ويقتل الشباب بدم بارد يستحق أن تجلس ، لتحاوره، بشأن إنقلابه، أم أن الأفضل أن تحدد القوى كافة هدفا محددا، كما حددته قوى الشارع، وهي قوى شبابية ومهنية ، وسياسية، رفضت المساومة والمتاجرة بدماء بنات وأبناء السودان، وقالت لا للانقلاب، وتمسكت بحكومتها الشرعية ورئيسها دكتور حمدوك، وقبل كل هذا وذاك، فهي تتمسك بالحكم المدني.
قلت وأكرر أن التمسك بالشرعية والحكم المدني يشكلان عنوانا بارزا من عناوين النصر، وأن تلاحم واتفاق كل القوى في هذا الشأن مهم وضروري، وتؤكد مؤشرات عدة أن موقف دول كبرى، وفي صدارتها أميركا وبريطانيا،ودول الإتحاد الأوروبي، بشأن ضرورة عودة الحكم المدني نابع من حراك الشارع، الثائر ، السلمي، وهذا أقوى سلاح، ما يستوجب التمسك به في أسوأ الظروف، لأنه أيضا مفتاح للنصر .
أتساءل : كيف يمكن أن تقبل الشوارع الثائرة ( حوارا ) مع ( مكون عسكري) انقلب على (الشركاء) المدنيين ، بقوة البندقية والدبابة ، وأشهر السلاح في وجوه عدة، واعتقل بقسوة، وحقد شديد، ثم قتل شبابا، من الجنسين، كانت السلمية وما تزال سلاحهم وخيارهم ؟ وكيف يمكن لأي شخص، يتمتع بقدر بسيط من التفكير، أن يأمن من غدر وخان وأراق الدماء؟
الجواب جاء في شعارات ومواقف الشوارع ..
هذا يعني أيضا أن أولوية الساعة، تكمن في اسقاط الانقلاب، لا في الكلام عن ( حوار) مع الانقلابيين أو(مبادرات) فضفاضة، لاخراج المغامرين من ورطة كبرى، سيدفعون ثمنها غاليا، محليا ودوليا .
هذه مرحلة لا تقبل أنصاف الحلول، والمساومة ، ومن ايجابياتها، رغم قسوتها، أنها تكشف من يقف مع إرادة الشارع الثائر، السلمي، وخياراته، ومن يختار طائعا مختارا، أو تحت ضغط التر هيب أو الإغراءات ان يسير على طريق الانقلابيين، وهو طريق طال الزمن أو قصر، فان مصيره إلى زوال.
المستقبل للجيل السوداني ( الراكب راسوا) الذي لا يهادن أو يساوم ، بشأن أهداف ثورته ، وحقوقه الإنسانية، وتطلعاته.
محتاجون، جميعا، للتعلم من وعي شباب السودان، ووعيهم بضرورات وحتمية الحكم المدني، وإدراكهم أن طريق النصر ليس مفروشا بالورود، ويستوجب نضج الرؤية، وثبات الموقف المبدئي، الرافض للطغيان، والعاشق لمناخ التنفس الطبيعي.
هذه الحروف رسالة إلى من يهمهم الأمر، ودعوة إلى تلاحم القوى الشبابية والمهنية والسياسية وقوى المجتمع الحية كافة، التي أعلنت أنها ترفض الانقلاب، وستقاومه.
تجاوزوا الحساسيات والمرارات، التاريخية القديمة ، ولغة(الأنا) من خلال برنامج عمل متفق عليه، لليوم والغد، أهم عناوينه اسقاط الانقلاب واستعادة أجواء الحرية، لبناء نظام في مستوى تطلعات شبابنا، وتضحيات الشهداء والجرحى والمفقودين.
برقية:
شاعرنا، المبدع ، الراحل، محمد طه القدال، رفع صوته ، برسالة وهدف (شان هنانا ، شان منانا، شان عيون أطفالنا ما تضوق الهزيمة) وهذا البوح الجميل يستوجب وحدة صف قوى الثورة والتغيير، وتنسيق الخطى والتلاحم أكثر من أي وقت مضى.
لندن- ١٨ نوفمبر ٢٠٢١

صحيفة التحرير

تعليق واحد

  1. كلام الكتير ده كله خارم بارم وتاويلات واضغاس احلام. والله تكتب لي بكره مافي زول بشتغل بي كلامك ده. الشارع زاته بقه واعي لأمور الديمقراطيه دي وللبصلحه من البضره. هسه انتي كنت داير البرهان قائد الجيش اللي هو يكاد يكون آخر مؤسسة متماسك في البلد المتهالكة دي يسلم رئاسة المجلس الانتقالي لي ناس أمثال خالد سلك والناس عرمان والشرزمه الكانت قاعده دي. بالله ديلا في نظرك كفاءات بتقود بلد؟!!! . ويجلسو معاهم ويسلموهم مصير بلد!!!؟ والله البرهان ده كان يكون اغبي رئيس في التاريخ. يااخ لعن الله كل قلم مأجور ساعي للفتنه وساعي لشتات هذا الوطن. واعلم جيدا أن كلمه واحده سببت فتنه وازهقت ارواح قد تهوى بك في نار جهنم خالدا.