الأزمة السودانية .. مأزق التسوية السياسية وانسداد طُرق التفاوض
يتفق الجميع في أن الخلاف بين الأطراف السودانية اصبح شائكاً ومعقداً, لأن الأطراف الداخلة فيه متعارضة ومتناقضة في مواقفها، ما صعّب طرق الحل رغم ازدحام الخرطوم بسيل وفود الوساطات الدولية والإقليمية الذي لم ينقطع لحل الازمة التي تكاد تكون وصلت نقطة اللا عودة بسبب الوضع السياسي المُحتقن بالاستقطاب والاستقطاب المضاد من قبل السياسيين والعسكريين والنشطاء رغبة في تأزيم الأوضاع, ما أنتج حالة من العنف تحركها مواقف سياسية متعطشة للدماء التي لم ينقطع سيلها في الشارع السوداني بالدعوات المتكررة التي يشجعها سياسيون للتصعيد بالتظاهرات المليونية منذ الـ(25 من أكتوبر) التي في كل مرة تشهد سقوط أرتال من الشباب بين ميت وجريح, ولا يزال طرفا الصراع يسترخصان إسالة الدم السوداني من تحت جدار شعارات ومواقف مُتحجِّرة صعب على كافة الوساطات اختراقها، رغم تزايُد الأعداد كبيرة من المصابين في مستشفيات الخرطوم من الشباب المتظاهرين وقوات الشرطة.
في ظل المشهد المُحتقن بالوصول لنقطة اللا عودة التي تبرز من خلال تخندق الطرفين بالتمسك بمواقفهما الذي اختزله عضو مجلس السيادة الانتقالي مالك عقار في مقولة إن الوضع في السودان كارثي, وأبدى تفاؤلاً بإمكانية تغييره إذا وافقت كل الأطراف على الجلوس إلى طاولة المفاوضات, وأضاف أن المكون المدني في حاجة إلى المكون العسكري والعكس صحيح, وعلى الجميع العودة إلى طاولة الحوار ومُناقشة جميع القضايا بعقل مفتوح دون شروط مسبقة, ونادى بأن يكون همّ الجميع الآن هو كيفية معالجة الوضع ومحاولة منع انهيار الدولة السودانية.
من أشد الكوارث التي لا ينتبه إليها الجميع في خضم العراك الدائر ظهور شبح العقوبات الدولية التي بدأت بتعليق البنك الدولي لنشاطاته في السودان الذي مثل برنامج ثمرات أول النشاطات المعلقة، هو برنامج اجتماعي ساهم به البنك الدولي لتخفيف أعباء المعيشة على المواطنين. وقال رئيس البنك ديفيد مالباس، في بيان إنه تم تعليق صرف أموال كانت مُخصّصة للمجتمع المحلي في السودان، وبجانب إيقاف أي عمليات مستقبلية، وتبع ذلك إعلان الولايات المتحدة الراعي الرئيسي للانتقال السياسي في السودان تعليق مساعدة مالية بـ700 مليون دولار، وفي جانب آخر لوّح الاتحاد الأوروبي بتعليق مساعدته المالية.
وفي ظل انسداد أفق الخروج عبر الوساطات التي يبدو أنها شبه متوقفة ما عدا التي تأتي من قبل الإدارة الأمريكية التي تضاعف جهودها لإنقاذ العملية الانتقالية في السودان بالضغط المكثف على طرفي الأزمة, ولم يتوقف مسؤولوها عن زيارة الخرطوم, التي آخرها زيارة مساعدة وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الأفريقية، مولي في، التي وصلت إلى الخرطوم بهدف الدفع باتجاه حوار سوداني – سوداني مباشر، بين المكونين المدني والعسكري يكون حمدوك طرفاً أساسياً فيه، غير أن المبادرة الأمريكية وغيرها من المُبادرات ظلّت تصطدم بموقف القوى المدنية الرافض للحوار وتمسك المكون العسكري بموقفه الرافض لعودة الأمور إلى ما قبل 25 أكتوبر، في المُقابل يتمسّك حمدوك بضرورة إطلاق سراح كافة المعتقلين والعودة لما قبل 25 أكتوبر كشرط لقبول مقترح أن يتولى منصب رئيس الوزراء في تشكيل حكومة جديدة, فيما نفت قوى الحرية والتغيير عقب لقائها بمساعدة وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الأفريقية (مولي في) أن تكون واشنطن قدمت مبادرة لحل الأزمة في السودان, ونفت أن تكون وساطات المجتمع الدولي عموماً قد حملت تصوراً لمبادرة لحل الأزمة السودانية.
فيما برز الحزب الشيوعي السوداني خارج دائرة الصراع مظهراً موقفاً محايداً ويظهر ذلك من خلال نفيه ما تداولته وسائل الإعلام بمشاركته في توقيع بيان الجبهة الوطنية لمجابهة الانقلاب الذي وقع عليه (26) حزباً وحركة مسلحة بدار حزب الأمة الأحد الماضي, وأعلن الحزب الشيوعي حسب الناطق الرسمي باسمه فتحي فضل, عن شروعه في تكوين جبهة جديدة وطرح وثيقة دستورية تحمل اسم سودان الأزمة واسترداد الثورة ويدير الحزب مناقشات حولها مع بعض القوى السياسية، وشن فتحي فضل هجوماً على قوى الحرية والتغيير, وقال “إنها تغيّرت كثيراً عن تلك التي وقّعنا معها الإعلان في يناير للعام ٢٠١٩م, وتنكّرت للميثاق وخانت العهد وأتاحت للمكون العسكري التلاعب بمكتسبات الثورة وهو ما جعلنا نعلن خروجنا من تحالف الحرية والتغيير رغم مشاركتنا في بعض أخطائه”.
وبدأ أستاذ العلوم السايسية بجامعة بحري د. عمر عبد العزير في حديثه لـ(الصيحة) بتساؤلات حول توقيت بداية التظاهرات, قائلاً إن من الغرابة الإصرار على أن تكون بداية التجمع والتظاهر بعد الظهر وتنتهي بعد حلول الظلام وهذه ثغرة كبيرة لوجود قتلى أياً كانت الجهات التي تطلق الرصاص, والملاحظ لا توجد أي منصة للمُخاطبات والتحدث وإبراز المطالب, ويغوص د. عمر عبد العزير في قراءته للمسرح السياسي باستدعاء بعض الأحداث التي سبقت توقيع الوثيقة الدستورية قائلاً: إن الشراكة لم تكن بين طرفين “مكون مدني وعسكري” كما يصورها البعض, وإنما بين أربعة تيارات من بينها القوات المسلحة وهي محافظة على تراتيبيتها ورؤيتها من أول يوم بدأت فيه هذه الشراكة وإلى الآن، مبيناً أن من الأخطاء التاريخية التي ارتكبتها القوات المسلحة إعلانها في يونيو (2019) اعترافها في أوج الاعتصام بأن الحرية والتغيير هي الممثل الشرعي للثوار, وقال “صحيح إن هذا التحالف قاد الثورة, لكن كل الشباب السوداني بمختلف انتماءاته السياسية من أقصى اليمين إلى اليسار شارك فيها، لكن نتيجة للضغط الكبير الذي واجه المكون العكسري, اضطر لاعتبار قوى الحرية ممثلاً للشعب”, لافتاً إلى أن الشارع وسيلة تعبير وليست ترجيح, وقال “ليست هناك ديمقراطية في العالم قامت بالحشود والحشود المُضادة, وإنما بالاستفتاء عبر صناديق الاقتراع”, مُشيراً إلى أن خروج سكان العاصمة لا يعني خروج الشارع السوداني.
واضاف د. عمر لـ(الصيحة) ان قوى الحرية والتغيير كان يضم داخل تيار متشدد تمثله قوى السيار, وآخر معتدل يمثله حزب الأمة القومي بقيادة الإمام الصادق المهدي الذي كان تأثيره في الضغط على مكونات قوى الحرية على توقيع الوثيقة الدستورية مع المكون العسكري باعتباره شريكا اصيلا في صناعة ونجاح الثورة بانحيازه لها ووضع نهاية لنظام عمر البشير، ويُواصل د. عمر بأن الشراكة استمرت بهذه التيارات الوطنية بما فيها التيار اليساري المتشدد في تمسكه برفض مشاركة المكون العسكري في السلطة.
ويلفت د. عمر لوجود صراع مكتوم بين التيارات المدنية, وقال “المشعد ازداد تعقيداً بعد توقيع اتفاق السلام, لأن الحركات المسلحة كانت قد فقدت الثقة في القوى المدنية ولم تقبل التوقيع إلا بعد أن تولى المكون العسكري ملف المفاوضات وبعد التوقيع حاول المكون العسكري تعديل مسار الخلاف بين المدنيين والمكون العسكري بتشكيل مجلس شركاء السلام”.
ويؤكد د. عمر ان الموقف المتحجر الذي صعب اختراقه نتيجة تصلب التيار المتشدد في قوى الحرية والتغيير من جهة السيار وتمسكه بموقفه الرافض لمشاركة العسكريين في السلطة الانتقالية, وهذا ما دفع رئيس الوزراء في فترة ما أن يخرج ويجهر بالقول أمام الجميع بأن الحكومة الانتقالية ليست على ما يرام والسبب أن الشراكة أصبحت مستحيلة ويحيط بها كثير من المهددات للأمن القومي من اسلحة ثقيلة ومليشيات.
وقال د. عمر واضحٌ أن المجتمع الدولى والاقليمي في مجملها تحاول ترجيح كفة البرهان خاصة الادارة الامريكية التي حتى الآن لم تقل هذه الخطوة انقلاباً, ثم ان أكثر ما يهمها هو حفظ الأمن في السودان ومنع أي انفلات بعدما حدث لها من إخفاقات في أفغانستان والعراق والآن إثيوبيا, ومعروف أن الأمريكان يدركون أن الأمن كهدف استراتيجي لا تحققه حكومة ضعيفة, وإنما حكومة أمنية عسكرية, والهدف الثاني لهم أن يتحقّق حكم ديمقراطي راسخ وهذا ما فشلوا في تحقيقه في العراق وأفغانستان رغم الصرف المالي الكبير.
والشد والجذب الذي يحدث الآن, يرى د. عمر أن القوى السياسية المُعتدلة مُمثلة في حزب الأمة ليس لديها أي مانع في أن تعود لطاولة التفاوض وفق الوثيقة, مُضيفاً: هذا واضح من تحرُّكه الذي يتم في السّاحة.
تقرير: الطيب محمد خير
صحيفة الصيحة