مُنى أبوزيد تكتب: قصة الأمس التي..!
لعدل أقل تَكلفةً من الظلم، والأمن أقل كُلفةً من الحرب”.. أحلام مستغانمي..!
قاريء المقال السياسي يقرأ لك بعقله، لذا فهو يعتبرك رفيق رحلةٍ قصيرة قوامها كاتب وقاريء، تنتهي عند آخر نقطة في السطر الأخير. أما قاريء المقال الاجتماعي فهو يقرأ لك بوجدانه، لذا فهو يؤنسن علاقته بك، وقد يرى فيك صديقاً يؤثر فيه ويتأثر به..!
قبل بضعة عشر عاماً كنتُ أقيم خارج السودان وأكتب مقالات يومية لصحيفتي “الرأي العام” و”حكايات”، وكنت التقي بمعظم الزملاء وبعض القراء في فترات إجازتي السنوية. وكانت العلاقة بين قراء الصحافة السودانية وكُتّابها لا بأس بها حتى العام 2011م، ثم بدأت حال الصحافة نفسها تزداد سُوءاً بسبب الضغوط والجبايات والعقوبات التي كانت تُمارس عليها من قبل سلطات حكومة الإنقاذ. إلى أن جاءت هبة سبتمبر في العام 2013م فقوَّضت القيود التي فرضتها السلطات على الصحف والكُتّاب – بشأن تغطية أو مناقشة أحداثها – معظم ما تبقى للصحافة السودانية في نفوس قرائها من احترام واهتمام..!
قبيل انقطاع معظم وشائج تلك العلاقة النبيلة وقبل أن تتحوّل معظمها إلى “نسالة خيوط” كانت صحيفة حكايات تُحظى بانتشارٍ واسع. وفي إحدى إجازاتي السنوية التي قضيتها في الخرطوم، والتي كانت تلفظ ساعاتها الأخيرة – لعل ذلك كان في العام 2008م، لست أذكر بالضبط – تلقيتُ مكالمةً هاتفية من أحد قراء عمود “قيلولة” بصحيفة حكايات..!
وقد ظل ذلك القاريء – الذي كان طبيباً يكبر والدي سناً – يلح في مقابلتي لأمرٍ مهم وعاجل، فأخبرته بلطف أن موعد إقلاع رحلتي بعد أقل من أربع وعشرين ساعة، وإنني أتمنى أن نلتقي في إجازتي القادمة، لكنه قاطعني قائلاً بصوتٍ واهن “يا ابنتي قد لا أكون حياً في العام القادم”..!
وهكذا طلبت من شقيقتي أن ترافقني في ذلك المشوار العاجل إلى عنوان عيادة ذلك الطبيب. كانت حكاية الرجل التي طلب نشرها دراميةً جداً، وبعد أن اطلعني على كافة الوثائق والصور – التي تثبت صدقه – انتزع مني وعداً بنشر ما يرد بشأنها من آراء في رسائل القراء، وقد أوفيت بوعدي بنشر حكايته بكل تفاصيلها في ست حلقات ونشر معظم ما وصل إلى بريدي من آراء وتعليقات القُرّاء بشأنها في ثلاث حلقات، وكانت المقالات المتسلسلة في الصحافة الاجتماعية رائجةً وتُحظى بقبول القاريء الذي كان يشتري صحيفة واحدة على الأقل يومياً مع خُبز الصباح وكيس الخضار..!
ما كتبته أعلاه يصف باختصار المناخ المهني والاجتماعي والسياسي والشكل الفني والظرف الزماني والمكاني الذي كتبت فيه سلسلة حكاية “فتاة الجناح الخاص” التي نُشِرتْ بصحيفة حكايات، والتي كتَبتُ في مقال الأمس اختصاراً لها بعنوان “قصة حقيقية”..!
حَدَّثتُك عن تدهور حال الحريات الصحفية في عهد حكومة الإنقاذ، وكنت أتمنى من كل قلبي أن لا اضطر إلى الحديث عن انتهاك ذات الحريات في عهد هذه الحكومة التي جاءت لتقيم العدل بعد ثورةٍ مجيدة. لكن زميلنا الصحفي “عطاف عبد الوهاب” ما يزال معتقلاً منذ ثلاثة أيام وحتى لحظة كتابة هذا المقال. ولم يصدر أي تصريح عن الجهة التي قامت باعتقاله، أو التُّهم المُوجّهة إليه، وهو صحفي لا يملك إلا رأيه وقلمه – فقط بعد الأخبار عن التحقيق معه ورفض النيابة الإفراج عنه – فهل يُعقل أن يحدث ذلك في عهد الثورة والعدالة والحريات..؟!
وهل اختلافك مع أحدهم في الآراء والمواقف يعطيك الحق في الحجر على حريته في الرأي والتعبير – فقط – لأنك لا تتفق معه، في الوقت الذي تصادف فيه أنك صاحب سلطة؟. هذه رِدَّة مُحبِطة في نزاهة أول حكومة بعد الثورة، وهي أيضاً كارثة سوف يكون لها ما بعدها!.
صحيفة الصيحة