موت الْعَالِم موت العالم
محمد يوسف وردى
نساق الى الآجال والعين تمطر … فى غمرة انشغال شعوب السودان بمكائد العسكر و أحابيل تاجر الحمير العبثية ، ينسرب من بين أيدينا سادن التاريخ الأول فى البلاد العلامة الهادى حسن احمد هاشم .
سينشغل بخبر وفاته علماء النوبيات والمصريات حول العالم ، لكن الدولة السودانية الفاشلة لن تهتم به لا حيا ولا ميتا . نحن نعرف و هو نفسه كان يعرف أن هذه الدولة منذ الاستقلال يقودها أقزام لذلك إبتعد الهادى عن مؤسساتها.
واستغل الدواب حينا وسار على اقدامه حينا من قرية الى قرية يجمع الكلمات الضائعة ويؤرشف
التراث والفولكلور ويهيل التراب عن التاريخ الخفى
وينشر الوعي والمعرفة بأهمية الهوية الثقافية وتعزيز فكرة المحافظة على الإرث الثقافي وترسيخها وتطويرها وسط الاجيال لكى يتمسكوا بها ويفخروا بها .لم يترك مدرسة او ورشة او ندوة او حملة اعلامية من اجل تربية جيل يتمسك بخصوصية ثقافته !!
من جمال حظنا أننا عشنا عصر الهادى وعبد الحليم صبار ، كانا مرجعية لجيلنا، وكانا الوحيدين بين مثقفى السودان من جعلا التاريخ حجر اساس حتى فى الحوار حول الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
الهادى أحد اصحاب الكفاءة فى البحث لذلك تحلقنا حوله فى خرطوم التسعينات ، أينما حل كان يشيع أجواء معرفية وأكاديمية رفيعة المستوى . اراؤه ليست سردية سطحية كما يفعل الجربندية الذين يستعرضون عضلاتهم بالقشور ، بفضله عرفنا خبايا كوش ومروى والنوبة ، وفنون الكلكية و المناخة وتحنيط المومياوات وغيرها من شتى ضروب الثقافة . وأذكر أن فرقة نوباتيا كانت قد أقامت لنا حفلا فى نواحى الرى المصرى فى الشجرة ختمها الهادى
بفاصل تعليمى يحدث لاول مرة وكان نقدا فنيا للاغانى النوبية شملت حتى اغنيات الفرعون .
عندما تقيم الاجيال القادمة مستوى الثقافة التى ستصلهم ستدرك أن قلة قليلة جدا من السلف ساهموا فى استعادة قوة الماضى وتوظيفها للحفاظ على الهوية واوصلوها لهم حية تتنفس ، وعندما تصنف الاسماء ستجد اسم الهادى متصدرا قائمة الشرف بمقدار سهمه الكبير فى الانتعاشة الثقافية التى عززت الهوية.
وافشلت مؤامرات تذويب الثقافة النوبية فى أهم منعطف تاريخى ترتب عليه اختفاء حلفا ومن ثم – فى فترات لاحقة – الخروج الجماعى من المنطقة فى سياق المؤامرة على انسانها بالسدود وتجفيف الخدمات والتحجيم المؤسسى للهوية النوبية ومحاولة فرض الثقافات ( العابرة ) وجعلها نمطا سائدا .
اهم درس قدمه الهادى لنخبنا فى خواتيم حياته العامرة هو قراره ترك الخرطوم والعودة لمسقط الرأس .
سماعى خبر رحيله يدور فى ذهنى سؤال ، لماذا دشن هو والراحل محمد مختار عابدون وأخيرا ميرغنى ديشاب والفاتح شرف الدين – وهم عصارة المبدعين الذين حقنوا هوية الحاضر بدربات الجلكوز – موسم الهجرة الى الشمال للاقامة فى وادى حلفا تحديدا فى عز اشتداد محاولات طمس الهوية النوبية واثارة الشبهات حول تاريخها .؟ هل نضب الشعر وجفت منابعه عندهم فقرروا العودة لوادى عبقرهم هناك ، هل هى حساسية الشعراء تجعلهم يعتذرون لحلفا على طريقتهم ام انهم قصدوا وضعنا جميعا امام تحد ؟!!
يرحل الهادى والمشهد الثقافي غارق فى ارتباكه والمثقفون والمهتمون انفسهم فى حيرة مستمرة لان جهودهم لا تجد سبيلا للنجاح ، ببساطة لانه ليست لدينا دولة تضع الثقافة فى خطة تنمية!!
ارسلت الاستاذة سعاد ابراهيم احمد ذات يوم تطلب حضورى لكى ارافقها الى الكلاكلة لانها تريد ان تتكلم مع الهادى وجها لوجه بعد فشل محاولاتها عن طريق المراسيل وقالت لى انها المرة الاولى منذ سنين بعيدة التى تقود فيها سيارتها، وفى الكلاكلة عقدت اجتماعا ناجحا مع الهادى اعقبه غداء فى منزل شقيقه الطيب وقد تم
تحديد موعد يذهب فيه الهادى لبيت سعاد لتسليمه المعينات الضرورية للباحث من مكتب وكمبيوتر وراتب مريح . فى طريق العودة قلت لسعاد ان الهادى لن يأتى حتى لو ولج الجمل فى سم الخياط لانه عصفور يحب الحرية ويكره الاقفاص ، و فيما بعد كنت اشاغله بان الجن الذى يسكن فى شعره الكثيف هو من يوسوس له لكى لا يذهب لسعاد فكان يغرق فى الضحك !!
نحن جميعا شركاء فى المسئولية ، الهوية يتم الحفاظ عليها عبر المؤسسات وليس عن طريق ديناميكية الاحتواء الذاتية ، لكن ما يزال الطريق طويلا وما يزال اصلاح الخطأ ممكنا !!!
وداعا يا مصباح الدجى ، لقد اديت الرسالة وكشفت الغمة ونصحت الامة !!!
صحيفة التحرير