أفغانستان والسقوط المدوي في يد “طالبان”.. ولهذه الأسباب انسحب الأمريكان
أحداث درامية متسارعة شهدتها أفغانستان في الأسابيع القليلة الماضية منذ أن بدأت الولايات المتحدة في تخفيض أعداد قواتها نحو الانسحاب الكبير من المستنقع الأفغاني، أسفرت عن سيطرة طالبان على عاصمة البلاد، فارضة سطوتها بعد غياب دام 20 عامًا منذ الغزو الأمريكي لأفغانستان في 2001.
تلك الأحداث المتسارعة أحدثت صدمة كبيرة على المستويَين المحلي والعالمي، خاصة مع صعود نجم الحركة التي عُرفت بتشددها الكبير، وإيوائها سابقًا تنظيم “القاعدة” الإرهابي، وزعيمه الراحل أسامة بن لادن، قبل أن تخسر السلطة في 2001 عقب الغزو الأمريكي، إلا أنها أعادت تنظيم نفسها خلال الوجود الأمريكي وحلفائهم في كابول؛ لتعيد فرض سيطرتها على الأمر الواقع في البلد المضطرب.
كيف بدأت القصة؟
لا يستقيم تحليل كيف وصلت الأمور في أفغانستان دون العودة بالتاريخ إلى الوراء كمقدمة لما تعيشه البلاد في الوقت الراهن، فقد بزغ نجم حركة طالبان في فترة التسعينيات إبان نهاية الحرب السوفييتية في أفغانستان، ونتيجة للحرب الأهلية التي شهدتها البلاد. وسيطرت الحركة على الحكم في منتصف التسعينيات متعهدة ببسط الأمن وإحلال السلم بعد أن وضعت الحرب أوزارها.
وطبّقت “طالبان” فهمًا متشددًا للشريعة الإسلامية، وخول لها هذا الفهم المتطرف حظر التلفزيون، والموسيقى، والسينما، ومنع الفتيات من إكمال تعليمهن بعد سن العاشرة، كما أجبرت الرجال على إطلاق لحاهم، فيما أجبرت النساء على نمط معين من اللباس والحجاب، وأصبحت أفغانستان تحت حكمهم بؤرة لصناعة وتفريخ الإرهاب في ظل إيوائها زعيم تنظيم “القاعدة” الإرهابي أسامة بن لادن.
لم تدم الأمور كثيرًا، واتجهت الأنظار مرة أخرى إلى أفغانستان و”طالبان” بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر؛ إذ رفضت الحركة تسليم أسامة بن لادن؛ ما اضطر الولايات المتحدة إلى التدخل العسكري في البلاد في أواخر 2001، وإسقاط حكم “طالبان” بالقوة، قبل أن تردي “ابن لادن” قتيلاً في عام 2011، أي بعد 10 سنوات كاملة من تفجير برجَي التجارة العالمي في 2001.
الانسحاب الأمريكي
طوال 20 عامًا ظلت القوات الأمريكية وقوات حلف شمال الأطلسي “الناتو” تعمل على بناء الجيش الأفغاني؛ ليكون قادرًا على حفظ الأمن والسلم، وصد الهجمات العدائية، ومنع البلاد من التحول إلى بؤرة إرهابية مجددًا، وتكبدت الولايات المتحدة طوال تلك الفترة فاتورة مالية باهظة، وصلت إلى نحو تريليون دولار أمريكي. فبحسب وزارة الدفاع الأمريكية، تكلفة الحرب منذ أكتوبر2001 إلى سبتمبر 2019 قُدرت بنحو 778 مليار دولار، فيما أنفقت وزارة الخارجية الأمريكية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية نحو 44 مليار دولار لمشاريع إعادة الإعمار؛ ليبلغ بذلك إجمالي التكلفة 822 مليار دولار.
بينما قدَّر المشروع البحثي المشترك بين جامعتَي براون وبوسطن الأمريكيتَين تكلفة الحرب بنحو 978 مليار دولار. ولتغطية تكاليف الحرب الباهظة اقترضت واشنطن مبالغ مالية ضخمة، قُدرت بنحو تريليونَي دولار، يُرجّح أن تصل قيمة فائدتها عام 2050 إلى نحو 6.5 تريليون دولار! فضلاً عن الخسائر البشرية الهائلة في صفوف الأمريكيين والأفغان من المدنيين والعسكريين.
ونتيجة لتلك الكلفة الباهظة أعلنت واشنطن في 2011 عزمها تقليص قواتها في أفغانستان تمهيدًا للانسحاب الكامل من البلاد، وأخذت مسألة الانسحاب الكلي أبعادًا جديدة وجدية في مطلع عام 2020، بعد أن وقّعت الولايات المتحدة وحركة طالبان “اتفاقية لإحلال السلام” في أفغانستان، استغرق التوصل إليها سنوات.
ووافقت الولايات المتحدة وحلفاؤها في حلف شمال الأطلسي “الناتو”، بموجب هذا الاتفاق، على سحب جميع القوات في مقابل التزام حركة “طالبان” بعدم السماح لتنظيم القاعدة، أو أي جماعة متشددة أخرى بالعمل انطلاقًا من المناطق التي تسيطر عليها الحركة.
ووعدت الولايات المتحدة برفع العقوبات المفروضة على “طالبان”، وبالعمل مع الأمم المتحدة على رفع عقوباتها المنفصلة المفروضة على الحركة. وجرت المفاوضات بشكل مباشر بين الولايات المتحدة والحركة بدون مشاركة الحكومة الأفغانية. وقال الرئيس الأمريكي وقتذاك دونالد ترامب: “حان الوقت بعد كل هذه السنوات لإعادة مواطنينا إلى الوطن”.
وفي الأول من مايو من العام الجاري بدأت الولايات المتحدة وحلفاؤها في حلف شمال الأطلسي (ناتو) رسميًّا سحب قواتها من أفغانستان، وفي الوقت نفسه كان مقاتلو “طالبان” يستعدون للإغارة على المواقع المدنية والحكومية والعسكرية الأفغانية؛ وذلك للسيطرة على الحكم في البلاد استغلالاً لحالة الفراغ التي صنعها انسحاب القوات الأمريكية وقوات “الناتو” من المشهد.
هل الأمر شكَّل مفاجأة للولايات المتحدة؟
الصدمة التي أحدثها تداعيات الانسحاب الأمريكي من سقوط مدوٍّ للمناطق الأفغانية الواحدة تلو الأخرى في يد “طالبان”، حتى السقوط الكبير للعاصمة كابول، ومغادرة الرئيس الأفغاني أشرف غني للبلاد، لم تكن بالأمر المفاجئ للولايات المتحدة، بل كانت مخططًا لها ومتوقعة، بحسب ما يرى الباحث في الشؤون الآسيوية إسلام منسي، مشيرًا إلى أن الانسحاب الأمريكي جاء مدفوعًا بعدد من الأسباب والمبررات، منها ترحيل المشاكل لتنفجر في وجه روسيا والصين.
ويقول “منسي” في حديثه إلى “سبق”: “الانسحاب الأمريكي جاء مدفوعًا بأسباب عديدة؛ إذ رأت واشنطن أن أفغانستان تشكل ساحة استنزاف لقواتها المسلحة وميزانيتها؛ إذ تتحدث بعض التقارير عن إنفاق واشنطن نحو تريليونَي دولار على الحرب، ولم تحقق فيها البلاد أهدافها التي شنتها من أجلها”.
ويضيف: “أيضًا هناك تقارير تتحدث عن أن أمريكا أرادت ترحيل المشاكل الأمنية في وسط آسيا لتنفجر في وجه الصين وروسيا. وهناك تحليلات منذ سنوات عديدة لكبار المفكرين الاستراتيجيين الأمريكيين بأن واشنطن استنزفت في حروب بعيدة عن حدودها، بينما كان هناك قضايا أخرى كان من المفترض أن تنال أولوية لكونها أكثر مساسًا بمصلحة البلاد”.
ويوضح الباحث السياسي أن الولايات المتحدة فشلت على مدار 20 عامًا في مشروعها في أفغانستان، وباتت تعي أنها ليست قادرة على تحمُّل تلك النفقات الكبرى، سواء في عهد “ترامب” الذي تبنى نهجًا أقرب للانعزالية، أو حتى “بايدن”، الذي تركز سياساته على التعاون مع الحلفاء، وعدم تصدر المشهد، على حد قوله.
ويلفت “منسي” إلى أن المشهد الحالي المتمثل في سيطرة “طالبان” على البلاد لا يشكل مفاجأة للإدارة الأمريكية، مشيرًا إلى أن خريطة التحديات في المنطقة ترسم الآن. ويقول في هذا الصدد: “ترى الولايات المتحدة أن هذا المشهد الجديد طالما أقل تكلفة لها سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا ربما يكون أكثر فائدة لها، وما حدث لن يقلقها كثيرًا؛ لأنه ليس مشهدًا مفاجئًا، ومن المتوقع أن تعاد رسم خريطة التحديات في المنطقة، سواء بالنسبة لإيران، أو الهند، أو باكستان، أو الصين، أو الدول السوفييتية السابقة وروسيا، بدخول هذا المتغير الجديد على الساحة بهذا الحجم، فربما يكون هناك تعاون وتواصل بين هذه الدول الإقليمية التي لكل منها منظور مختلف، ومصالح مختلفة، ولكن تريد أن تتعاون من أجل قراءة المشهد الجديد، والتعامل معه”.
صحيفة سبق