خرطوم الكتاحة والفرناغة
توالت على العاصمة الخرطوم خلال اليومين الماضيين عواصف قوية مثيرة للغبار والأتربة، وهي ظاهرة طبيعية يطلق عليها شعبيا (الكتاحة)، ويقال أن (الكتاحة) لفظة عربية قديمة مأخوذة من قولهم (كتحت الريح فلانا) إذا سفت عليه الريح ونازعته ثوبه وحركته بقوة من شدتها، وتثور الكتاحة حينما يشتد الحر في منطقة ما فيخف الهواء ويرتفع إلى أعلى فتتحرك تيارات أبرد نسبيا من مكان آخر لتملأ هذا الفراغ، وتحمل هذه التيارات معها في حركتها كميات كبيرة من التراب الناعم الدقيق المسمى محليا (الفرناغة) تسوقه معها من مسافات بعيدة، وعادة ما تضرب الكتاحة الخرطوم عند هطول الأمطار في المناطق القريبة منها، في الوقت الذي تكون فيه الخرطوم قاحلة وجافة لم تشهد أمطارا تثبت تربتها وتقيها شر الكتاحة، وتتسبب الكتاحة فى ادخال كميات مهولة من الغبار الناعم والاتربة الى داخل كافة المباني خاصة تلك غير محكمة الاغلاق، وأكثر من يتأذى من الكتاحة هن بلا منازع ربات البيوت وعمال النظافة، اذ يقع عليهم بذل جهد أكبر لازالة آثار الكتاحة، هذا طبعا غير المعاناة الكبيرة التي تسببها لمن يعانون من أمراض الصدر والجهاز التنفسي، كما يتضرر منها بشكل أكبر من غيره من تصادفه الكتاحة في عرض الشارع، حيث تحيل ملابسه الى اللون البني الداكن، وتمتلئ جفون عينيه ومنخريه وأذنيه وتلافيف شعر رأسه بذرات التراب الناعم، ويحتاج لازالة هذا الهجوم الترابي الكثيف لبذل جهد أكبر من المعتاد عند الاستحمام، هذا طبعا اضافة الى أن الكتاحة تعطل مصالح الناس، وتلزمهم البقاء في بيوتهم حتى انجلائها، كما تتدنى بمدى الرؤية الافقية ما قد يؤدي الى إغلاق مطار الخرطوم أمام الملاحة الجوية، ومحصلة كل ذلك في النهاية هى بلا شك خسائر مادية وإقتصادية وصحية..
بالطبع لن تكون هذه العواصف التي ضربت الخرطوم خلال الأيام الماضية، هى الاولى والمؤكد أنها لن تكون الاخيرة، بل ستعقبها عواصف متوالية الى ان يرحم الله الخرطوم بتثبيت التربة جراء توالي هطول الامطار في المناطق والولايات المحيطة بها، وستظل الخرطوم تشهد هذه الظاهرة وتتكرر عليها سنويا، فمنذ أن فقدت الخرطوم غطاءها النباتي وحزامها الغابي نتيجة الازالة وإحلال غابات الاسمنت في مكانها دون تعويض، أدى ذلك من يومها الى إختلال نظامها الايكولوجي، فعندما يختل هذا النظام الذي أبدعه الخالق فلا يتوقعن أحد بعد ذلك إلا الكوارث والعواصف، فالخرطوم نفسها قبل أن يهجم عليها حاملو الفؤوس ويجتثوا اشجارها، كانت على قدر من الخضرة والجمال والانعاش ولم تكن بهذا الوجه الكالح ولم تكن تغشاها الكتاحة.. فهل يا ترى بالامكان ان تعود الخرطوم سيرتها الأولى، خضراء و جميلة ونظيفة و تنتشر في ربوعها مختلف أنواع الزهور، وتعمر لياليها الأنشطة الثقافية والاجتماعية والفنية..كما كانت في ستينيات القرن الماضي..ما أقسى على المكان والانسان حين يكون ماضيه أفضل من حاضره، بل وللأسف أن يكون مستقبله مجهول الملامح..
حيدر المكاشفي
صحيفة الجريدة