موت الضان
* لم تكن زيارة دولة رئيس الوزراء لمقر الصندوق القومي للإمدادات الطبية بحاجةٍ إلى سابق إعلان، لجهة أن تحسس ما يحدث داخل المؤسسة المكلفة بتوفير الأدوية للسودانيين يفترض أن يمثل جزءاً من صميم عمل الدكتور حمدوك، بصفته المسؤول التنفيذي الأول في الدولة.
* استغربنا دعوة الإعلام لتغطية الزيارة، وكأن الزائر ضيف غريب يرغب في تفقد الصندوق، كما استغربنا تأجيل الزيارة، لأنها تأخرت شهوراً طويلةً أولاً، ولأن الناس لم يروا من رئيس الوزراء وحكومته الاهتمام اللازم بملف الصحة، الذي شهد تدهوراً مريعاً، وسقوطاً شنيعاً في وحول العجز والإهمال واللامبالاة، إلى درجة الإبقاء على منصب الوزير في عُهدة (مُكلّف) أكثر من ثمانية أشهر، في عز زمن جائحة الكورونا.
* نجزم أن تلك الفعلة المستهجنة مثلت سابقةً لم تحدث، ولن تتكرر في أي دولة أخرى.
* أن تُترك الوزارة المعنية بعلاج الناس ومكافحة الأمراض والحفاظ على الصحة العامة بلا وزير أصيل؛ في زمن عانى فيه العالم كله من أخطر وباء، وباتت وزارة الصحة الأهم في كل حكومات العالم.. ذلك شيء يصعب تخيله، ولا يقبله عقل، لكنه حدث عندنا في السودان، وكانت محصلته ما يحدث لدينا الآن!
* في الوقت الذي كانت فيه (صحة) السودان بلا وزير، كان ملف الصحة يتصدر أولويات الرؤساء ورؤساء الحكومات في كل دول العالم.
* في أمريكا، ابتدر بايدن عمله كرئيس بإعلان خطة شاملة لمكافحة الفايروس التاجي، وكيفية وقاية الأمريكيين من شروره، وفي بريطانيا تصدى رئيس الوزراء بوريس جونسون للأمر بنفسه، حتى أصيب بالمرض، ودخل مستشفىً نال منه اهتماماً يكفي لعلاجه.
* عندما تمت تسمية الوزير خرج علينا في ظهوره الإعلامي الأول ليعترف بموت المرضى في مستشفياته إهمالاً، من دون أن تحدثه نفسه بالاستقالة، أو تلزمه بمحاسبة المسؤولين عن قتل مساكين وضعوا حياتهم بين أيادي من لا يستحقون الثقة.
* عندما تفشت الجائحة، وانطلقت التحذيرات لتتحدث عن خطورتها في بواكير عهدها، كتبنا في هذه المساحة منذرين، وذكرنا أننا نحتاج إلى منهج تفكير إبداعي وإيجابي يتم خارج الصندوق، كي يذلل المستحيل، ويسهّل الصعاب، ويُحسن توظيف مواردنا الشحيحة ومستشفياتنا المتهالكة لمواجهة الخطر المحدق، بدلاً من الاكتفاء بإعلان أرقام المصابين وحالات الاشتباه، والتباكي اليومي على نقص المعينات وضعف التمويل.
* اقترحنا إنشاء مستشفيات ميدانية بسعاتٍ كبيرةٍ، مع إلزام كل شركات الأدوية والمعدات الطبية بوضع محتويات مخازنها تحت تصرف وزارة الصحة، كي تستخدم زاداً وعتاداً لمحاربي الجيش الأبيض.. ذكرنا أننا في معركة ضد الزمن، وفي خضم سباق (عكس الساعة)، ولو تأخرنا أكثر، فستمتلئ المستشفيات بالمصابين، قبل أن تعجز عن استقبال المزيد، وحينها سنموت (موت الضان).
* الآن نعلن بكل وجع الدنيا أننا وصلنا مرحلة (موت الضان)، وتحول السودان كله إلى سرادق ضخم للعزاء.
* لم تنج أي أسرة، بطول البلاد وعرضها، من فقد الأحبة، وعكست وسائل التواصل الاجتماعي حجم الكارثة بتعدد النعي، وسيطرة أخبار الموت على ما سواها، ودفع كبار السن الثمن، رحيلاً بالجملة.
* فتك الفايروس بالكبار، ولم يستثن الشباب، وحدث ذلك بعد أن انهارت مستشفياتنا المهترئة أصلاً، وأغلقت أبوابها في وجوه المرضى، وعجزت عن توفير أبسط درجات العناية الطبية لهم.
* صار الناس يقصدون المستشفيات كي يموتوا في ردهاتها البالية، وأمام أبوابها الموصدة، ومع ذلك سيطرت حالة من التبلد على مسؤولين ظلوا يتعاملون مع الكارثة المفجعة وكأنها تحدث في دولةٍ أخرى.
* يمارسون أعمالهم المعتادة، ويعقدون اجتماعاتهم الباردة، ويسافر بعضهم إلى الخارج في وقتٍ تخلو فيه مستشفيات الدولة من البنج والأوكسجين والقطن والشاش، وتفتقر إلى الأدوية وأبسط المستهلكات الطبية، ويشكو الأطباء من انعدام الألبسة الواقية وقلة المخصصات، وتخلو أرفف الصيدليات من أدويةٍ باتت أسعارها فوق طاقة الميسورين، ناهيك عن فقراء يموتون بالمئات كل يوم.
* صار الحصول على سرير في أي مركز للعناية حلماً بعيد المنال، مهما أجزل الراغبون فيه المال، لجهة أن كل المستشفيات (العام منها والخاص) استوفت طاقتها القصوى، وما عادت قادرةً على استيعاب المزيد.
* ما يحدث في بلادنا حالياً يمثل كارثةً مؤلمةً، تتقاصر دونها الحروف وجعاً، ولا تملك الكلمات لها وصفاً، فهل تشعر الحكومة بهول ما يحدث؟
* ولو شعرت بعد طول إهمالٍ، هل تستطيع لها دفعاً؟
مزمل ابو القاسم
صحيفة اليوم التالي