القضايا الكبرى (٢)
تناول المقال السابق ثلاث قضايا هي الدستور الدائم، والأحزاب السياسية والاقتصاد، وجوهر المقال كان هو إطلاق وإدارة الحوار المجتمعي والعلمي حول الدستور وقانون الأحزاب السياسية وإصلاح البيئة الاقتصادية، بحسبان انها قضايا تحتاج للاجماع الوطني والتوافق حتى يستند عليها النظام الديمقراطي، لا يجب ان يستكين الشباب الذين فجروا الثورة ومهروها بالدماء ولا عامة الشعب من النساء والرجال ويعتبروا ان نقاش هذه الأشياء من اختصاص السياسيين، فالسياسي كالملاح لسفينة في بحر عريض بوصلته للشاطيء هي الجماهير، اذا تركنا القرار في هذه القضايا للسياسيين فقط فسوف يتوهون بالمركب ونتوه معهم ونصبح فريسة للغرق و التماسيح، لذلك أشجع الجميع على مناقشة هذه القضايا في اي مكان، في رواكيب الدواوين وفي جلسات الاندية وفي الجامعات وونسات العصاري وفي مقاعد ستات الشاي وفي العمل والمواصلات وفي اي مكان، يجب أن يشارك الجميع في وضع الموجهات لسياسة هذا البلد، فهذا البلد للجميع، لا فضل لأحد على أحد ولا ميزه لمواطن على آخر.
القضية الرابعة هي السلام، بناء السلام يحتاج إلى إرادة حقيقية، معظم المقاتلين الذين هم وقود للحرب في الحركات المسلحة لا يدركون ابعاد القضية التي يقاتلون لأجلها، فمعظمهم صادف وجوده في منطقة الحرب وأصبح جنديا، ولم يكن أمامه خيار اخر، القادة العسكريون للحركات يحملون مشروعا ولكنه مشروعا سياسيا وليس مشروعا إلهيا مقدسا، لذلك مشروعهم مليء بالخطأ والصواب، وأكبر خطأ كان هو الاعتماد على البندقية كخيار وحيد ومستمر بدلا عن المقاومة والنضال المدني، تاريخيا نادرا جدا ما إنتصر تمرد على حكومة مركزية بالسلاح، دائما ما ينتهي الصراع العسكري بالاتفاقيات السياسية ولكنها تكون اتفاقيات متأخرة جدا بعد أن تقضي الحرب على كل البني التحتية وتشوه وجدان المواطنين وتفرخ اجيال من الحانقين والغاضبين مما يسمم الأوضاع ويقود إلى إفشال الاتفاق عند أول بادرة غير طيبة مقصودة كانت او غير مقصودة من الحكومة المركزية.
لذلك إيقاف الحرب وإحلال السلام عبر إعطاء المناصب لقادة الحركات واشراكهم في قيادة الدولة ليست في حد ذاتها الهدف، وإنما هي وسيلة عبرها يتم إسكات صوت البندقية وإعطاء الفرصة للاغلبية التي لم تختار الحرب كسلاح وإنما فرضت عليها نتيجة للجغرافيا او التاريخ، هذه الأغلبية اذا عاشت السلام والحياة الطبيعية ربما ستكون أكثر مقاومة في المستقبل لخيارات الحرب، وأكثر قدرة على رفض الانجرار خلف المشاريع السياسية الذاتية لقادة الحركات، وهو السبب الذي ربما منع قيام أي حركات مسلحة ضد الدولة المركزية في الوسط والشمال والشرق.
بناء السلام حيوي لبناء النظام الديمقراطي، فالحرب ظلت دوما مبررا أساسيا للانقلابيين وسبب لتاخير التعليم والتنمية وإجهاض التطور الطبيعي للوطن، لذلك غاية السلام الأخيرة هي بناء مجتمع حاضن للديمقراطية، طالما ظل هناك سلاح وحرب فلن تقوم للديمقراطية قائمة، وهذا يقودنا للقضية الخامسة والأخيرة وهي توحيد الجيش، وجود جيوش متعددة في وطن واحد يعني استمرار جو الحرب وجلوس البلاد فوق كومة بارود، اذا انطلقت طلقة واحدة انفجرت البلاد عن اخرها، لذلك لابد من توحيد الجيش السوداني وإصلاحه عبر تطوير عقيدته ليكون جيشا مهنيا وظيفته الأساسية هي حماية النظام الدستوري والدفاع عن البلاد وحدودها.
صحيفة التحرير