نضب جدول الحليب.. ورحل شيخ الطريقة
نضب جدول الحليب.. ورحل شيخ الطريقة
محجوب شريف.. (أيا موت لو تركتو.. مننا قد سرقتو)
محمد عبد القادر
الكتابة عن محجوب شريف عصيّة فى تذكر فقده الأليم، الرجل حالة قيمية ثرية بصفات السوداني (الصميم ود البلد)، كان ناطقاً بكل جميل فى سماتنا الموروثة وتقاليدنا السمحة ، مثل محطة للنقاء الأسمر الموصول بالأمل والحكمة وحسن الظن فى الغيب والضمير، عاش فى كهف أسطوري متواضع شيّده بالحب والقصائد والدموع والمواقف الباهرة ، ظل معتداً بإنسانيته وسجاياه وأفكاره ومبادئه ورغم ذلك كان بسيطاً متواضعاً ينسج قصائده من خيوط الطواقي وسعف النخيل ، فتأتي محتشدة بهديل الحمائم وحداء الحزانى وأحلام الصبايا معطرة بدموع اليتامى ومؤيدة بأخلاق الرجال .
قصائد ود شريف تخرج من الشارع والقلب مجرتقة ومعبّأة برائحة الضريرة والصندل وموسّمة بوجع الشوارع وفرح البيوت وجسارة النضال .
كان محجوب ابناً باراً بهذا الشعب متحدثاً رسمياً باسم وجدانه وأحلامه ووجعه وأشجانه، ملأت أشعاره دفاتر العشاق قبل أن تصبح حضناً لليتامى وملاذاً للمحرومين وأشواقاً للعابرين الى نهايات الروح الشفيفة؛ بحثاً عن مبدأ ونموذج ومثال.
محجوب شريف كم (طرق قوافي) سكنت ذاكرة الشعب الذي كان يرتمي في أحضان قصائده عند أحلك الظروف، كانت الحياة تتنفس ما يكتب وهو يحدثها صباح مساء عن ( الحلم الجماعي والعدل الاجتماعي والروح السماوي والحب الكبير).
بالأمس نضب جدول الحليب، ورحل شيخ الطريقة الشعرية الخاصة الى الرفيق الأعلى، كان شيخاً وله مريدون يتحلقون حول قصائده المشحونة بزهد المتصوفة وعفة الأولياء الصالحين، بل كان ولياً يسكن ضريحاً تسوّره الأخلاق وتعمُره المروءة وتباركه إشراقة سرمدية جعلت من حياته مدداً وزاداً للذين هم لا يملكون..
محجوب شريف فى تقديري الخاص شاعر برتبة إنسان ، تستأثر الحكمة المنظومة بناصية نزفه فتمنحنا أفكاراً جديرة بالبقاء، وهو كذلك فيلسوف يرى العالم من خلال روحه الثرية فتأتي القصائد فارعة ونابهة وضاربة التأثير ، وهو كذلك المصلح الاجتماعي الذى حمله النقاء إلى مراتب الصادقين فجعل منه (علامة) بائنة فى رحلة توهّج أبدي، ملأ ذاكرة الناس وهم ينصبّونه شاعراً للأمة زاخراً بقيمها ونابضاً بحلمها وناطقاً بأشواقها لعالم خيّر، ديمقراطي يلامس الثريا ويتحلى بأخلاق المدينة الفاضلة.
ترى من سيرثي محجوب شريف ويأتي بقصيدة تتجاوز قوافيه الفارعات، سرق الموت آخر ما تبقى فى أيدينا من عطر فضاح، كم أشجانا وأسعدنا بغزلياته وكفاحه ومراثيه، كان راكزاً حتى إغماضته الأخيرة فى برجه الإنساني النبيل، يقدّم فروض الولاء والطاعة للشعب الذى ظل يدعو له بحماسة تقول: (إنت تلقى مرادك والفي نيتك)، محجوب لم ينس أن يودّع هذا الشعب بمداد من الوريد فى آخر نزف له قبل أن يعبر إلى الضفة الأخرى :
أنت الأول
وكل العالم بعدك تاني
يا متعدّد وما متشدّد
مامتردّد.. ما متردّد
ملء جفوني بنوم متأكد
بل متجدد تنهض تاني
ولما تعاني.. بعاني واعاني..
رحم الله محجوب شريف بقدر ما أفاض من قصائد وقواف أسعدت الملايين، ونسأل الله أن يتقبله فارساً للكلمة وأميراً للإنسانية وملكاً على إخلاصنا للمجد والقصائد..سنظل نردد ما دام القلب يخفق..
وين عمي البيطرق جوايا القوافي
ياكرسي وسريرو هل مازلت دافي
يامرتبتو امكن في مكتبتو قاعد يقرا وذهنو صافي
روحك كالحمامة بترفرف هناك
كم سيرة وسريرة من حولك ضراك
والناس الذين خليتهم وراك
وقلوبن حزينة بتبلل ثراك
ابواب المدينة بتسلم عليك
والشارع يتاوق يتنفس هواك…
أخيراً: الدمعة لو سالت قشيها يامريم
رحمك الله يا محجوب شريف
محمد عبد القادر.. صحيفة اليوم التالي