وجدي كامل يكتب الرأى العام المُمَزق
الرأي العام في اعم تعريفاته وتفسيراته عبارة عن اتحاد وانحياز، أو اتفاق العددية الغالبة من الكتل، والحزم، والتيارات الاجتماعية واحيانا السكان، على موقف، او فكرة، ما أو قضية، أو ظاهرة لتشكيل راى موحد حولها من قبل المجموع يحقق بواستطتها الغايات و الأهداف المرجوة. ومما هو ضروري وجوهري ان يشكل الموقف قوة، و دينامية، واداة ضغط لتحقيق أهدافها المعلنة.
ويعمل الرأي العام عادة على التأثير في نطاق السلوك بواسطة التصور المنسجم ،المتفق عليه من قبل تلك التيارات او المجموعات، او القوى الاجتماعية المتحدة في حيازة الموقف و الراى.
ومما لا شك فيه ان وسائل التواصل الاجتماعي وبما حققته من امكانية تاثير عظمي وعظيمة في الاستمالة والتأثير على العناوين المختلفة لانتاج المعلومة والمجالات المتعددة لحركتها وفاعليتها وبما تنتجه من افكار ومواقف نفسية تلعب الدور الاهم في صياغة مراكز صناعة القرار لمنتجاتها. ووسائل الاتصال وبالاحرى التواصل تصبح ورغم الطاقات الاستثنائية التي تحوزها لفعل ذلك التأثير في أوقاتنا الحالية- تصبح غير مؤتمنة او مضمونة الدقة في اصابة الاهداف ومنها الخدمة النقدية البديلة النموذجية.
يعود السبب في ذلك وبنحو فوري ومباشر الى ان تلك المواقف من الراى العام لا تنشأ وبصفة دائمة، او تنطلق من معلومات صحيحة خالية من تاثيرات مغرضة من مصادر او جهات ما. بل من الجائز وصف وتعميم ان المدخلات المعلوماتية الزائفة، غير المحققة قد انتجت مواقف معرفية عند السودانيين ليست ناقصة ومقلوبة فقط بشأن التاريخ وماضي وجودهم بل بتزوير المعرفة بحاضرهم وبالتالي صناعة ما يعرف بالوعى الزائف حول العديد من القضايا والموضوعات. فالمدخلات السيئة او المريضة لا بد وان تقود الى مخرجات مماثلة تؤدي بدورها الى اتخاذ تفكير وقرارات غير سليمة ومضادة احيانا لسياق ومحتوى التطور في مختلف الاشكال و الحقول. ان ابداء نظرة واحدة الى خارطة الاشياء و مآلات الحركة الاجتماعية والسياسية على وجه الحصر يشير الى دور الشائعة او الشائعات والانباء الكاذبة في تشكيل مخرجات الراى العام الاجتماعي والسياسي واسامة سمعة التطور بمجمله وتعطيل طاقات المراكز الحية لصناعته.
و ليست الشائعات ما يمزق الراى العام الراهن ولكنها الأنباء الكاذبة كما اسلفت. فالشائعة خبر، او حدث مُزور، مُلفق، غيرمُثبت، غير مٌدرك المصدر يسرى باقصى السرعة بين غابات الراى العام. اما الأنباء الكاذبة فهى اختلاق الوقائع من الاساس بنسيج محكم، وبرواية جاذبة تغرى المرء او الافراد والجماعات بتصديقها واعتمادها بوصفها الحقيقة المطلقة دونما منازع. فكلاهما ينزع الى التاثير، واستمالة، وتوجيه الراى العام الى معلومة بعينها او رأي دون اخر. وغالبا ما تدس الشائعة والانباء الكاذبة سمومهما عبر الغرض الذي من اجله تداعيتا للانطلاق.
وتعرضت الشائعة والانباء الكاذبة عبر التاريخ الى نمو مطرد ارتبط بالازمات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية في أزمنة الحروب والمواجهات بين الدول ما جعل بعض المؤرخين الاعلاميين اسناد انتشارهما الى الحرب العالمية الثانية وما تلاها من حرب نفسية بين القطبين العالميين السابقين في مرحلة ما سميت بالحرب الباردة بعلاقة وتطور وثيق بوسائل الاعلام والخدمات الاتصالية المتوفرة.
وأُعتبرت الشائعة من هذه التجارب بالسلاح الرمزي الخفي المدمر الذي بمقدوره احداث اضرار قد تفوق الاضرار التي تحدثها الاسلحة المادية المعروفة. فالشائعة والانباء الكاذبة تستهدفان الراى العام في مقتل ولكنها يتوسلان غايتهما عبر سبل وطرق بعينها تستهدف العقل والوجدان كمركز موحد للدمار والتفجير.
وقد عرف السودان في حياته الاجتماعية والسياسية الشائعات والانباء الكاذبة عبر احداث عديدة تعد وفي وجهة نظر الباحثين اقوى اسباب انهيار العمل الجماعي، والتحالفات السياسية، والوحدة الوطنية وأحيانا الفتنة الاجتماعية بالنحو الذي جعل من ما سميت بأحداث الاحد الاسود 6 ديسمبر 1964 نموذجا شاهدا عليهما. فعندما تاخرت طائرة كلمنت امبورو وزير الداخلية في حكومة ما بعد اكتوبر شاع بين الجنوب سودانيين ان الطائرة قد تم تفجيرها مما اثار ثائرتهم، و وسم تدفقهم على الشوارع بالتدفق الغاضب، واصبغ تظاهراتهم بالعنف تجاه الشماليين أولا والعنف المضاد من جانب الشماليين في النتيجة لذلك. وجددت الواقعة في كتابات السودانيين من الشمال والجنوب والشماجنوبيين تفنيدات متعددة ولكن وكم اوضح بيان السفارة الأميركية آنذاك فقد اكتنف الموقف الواقعي تضادات تتنافض مع نهاياته حينما توفرت المعلومات عن ذهاب حشود الجنوبيين بالأصل للتظاهر ضد كليمنت يتهمنة التعاون مع الشماليين قبل ان تطغى الروح القومية وتذيب بفعل قوة الشائعة الفوارق السياسية لمواقفهم وتدفع لما جرى. و تكرر كذلك الشائعة دورها في صياغة احداث ما عرف بالاثنين الاسود 1- 8 – 2005 عندما شاع بين الجنوبيين المناصرين للدكتور الراحل جون قرنق دي مابيور بان الحكومة السودانية وراء مقتله
و لتحليل الشائعة والاكاذيب ينبغى ذكر انهما ليستا فقط ظاهرتان بل بنيتان لهما الاستعداد النفسي للقبول والارضية السابقة القابلة للاستقبال و النمو بسبب التطاحنات، والصراعات السياسية، والاجتماعية التى تشكل السوق الفعلي لترويج بضائعهم.
و الاعلام الجديد او اعلام ما عرفت بوسائل التواصل الحديثة العابر للقارات و للحدود والآني النتائج قد شكل خدمة استثنائية للشائعة والأنباء الكاذبه بما وفره من ملكية عامة لمنصات التواصل ومساواة بين المستخدمين في اطلاق الرسائل و تصميمها. عَقد ذلك من وضعية الراى العام الذي اصيب بالسيولة والتحور نظر تلقيه كما هائلا من المعلومات المتصادمة في وقت واحد ومن مصادر متعددة اضحت اغلبها تفتقر الى المصداقية او امكانية التثبت من صحة ما تقول.
وتتصاعد ازمات الراى العام يوما بعد يوم بسبب تنوع البرامج الالكترونية والرسائل الاتصالية التي غدت تضخ بنحو يستخدم اكثر من لغة واسلوب اتصالي من صياغة الخبر الاعتيادي والقصة الخبرية عبر المنشورات والتسجيلات المباشرة للشخصيات والاحداث، و بث الصور، وقدرات بعض البرامج والتطبيقات الالكترونية كالفوتشوب على تزييف المعلومات المقروءة والمسموعة والمرئية والتدخل في سرديتهم الطبيعية وجعلها سردية مغرضة منحرفة الاهداف.
المشهد السياسي الراهن للسودان وبما يحتويه من استقطابات حزبية، وجهوية، و طبقية اجتماعية بعد ثورة ١٩ ديسمبر بات ارضا خصبة لانتشار الشائعات والانباء الكاذبة. ولتحليل وضعية الرأى العام المتأثر تمزقا بالشائعة ينبغي فرز الكتل المتصارعة على السلطة الى كتلتين اساسيتين – كتلة صعدت الى السلطة نتيجة تفاعلات ثورة 19 ديسمبر وكتلة خسرت السلطة نتيجة ذلك.
من السهل والطبيعي تحديد أن القصف بالشائعات والأنباء الكاذبة يتم بصفة مدروسة من قبل معسكر النظام السابق وشبكة المصالح المرتبطة به، ولكن من المهم كذلك ذكر ان التعقيد الذي يلازم وضعية الرأى العام المُستقبٍل لهما يكمن في اختلاط مراكز قوى السلطة في اقترابها او ابتعادها عن المعسكر الفاقد للسلطة وبحث يصعب التقسيم الثنائي للصراع بوصفه ثنائيا فقط كونه حالة أقرب الى تخالط السلطة الجديدة في قسم من مكوناتها مع السلطة القديمة وتكوينهما لمنصة قصف يطال الأداء الحكومي التنفيذي من موقعين أحدهما خارجي والآخر من داخل السلطة وموقع صناعة القرار الذي كثيرا ما يتغذي بالشائعات والأخبار الكاذبة من اجهزة وافراد لهم مصالحهم الشخصية في جعل الصورة مقلوبة والحال مائلا، والاستقرار املا بعيدا.
ذلك فيما جميعه يساهم في طعن خصر الثورة نفسها طعنة نجلاء بما يحدثه من أحباط، وتقاعس، وكسل في الروح الثورية للقطاعات الحية التي ساهمت في تفجيرها.
ان حدوث مثل تلك النتائج الضارة بالنسيج، والشرائح الثورية هو ما يؤشر الى امكانية وقوع الانفجار العام باتصال مع فشل يصاحب الأداء التنفيذي في ادارة الاقتصاد والخدمات. غير ان الشائعات والانباء الكاذبة تقتات وتتغذي ايضا من التكوين الثقافي السياسي الهش للسودانيين بما ورثوه من أوضاع مدمرة ودمار شمل البنيات التحتية الاقتصادية، والمدنية الاجتماعية بترييفها، واعاد الحياة مجددا لسلطة القبيلة والاثنية حتى في داخل المدن والتشكيلات الحضرية الجغرافية من جهة، وأثار النعرات الآيديولوجية من جهة اخرى مما يجعل الشائعة والانباء الكاذبة سلاحا استراتيجيا متقدما في معركة نسبة من المكونات للوصول الى السلطة ونيلها ولو بدون وجه كفاءة وحق في ذلك.
في غمرة ذلك الاندفاع الى نيل السلطة، وتجميد التواصل الوطني الحميد بين اطراف الصراع ومكوناته، يغيب عن الانتباه تزايد فرص القضاء على الاستقرار.
ذلك هو الخطر المحدق و تلك هى المصائر القاتمة اللئيمة التي ستنتظر البلاد اذا ما تفاقمت الظاهرة ولم تجد نصيبها من المعالجة بالحكمة، وحسن ادارة الصراع من الاطراف المعنية الضالعة في اشاعة شائعات و انباء كاذبة عن بعضها البعض – شائعات وانباء سوف تقضي بلا شك على الأخضر واليابس معا ذات لحظة من الجنون غير المستبعد ايضا اذا ما استمرت في تغليب مصالحها المحدودة الضيقة على المصلحة العامة، و اذا لم تعمل معا على صناعة سودان موحد ومتناغم ومنتج للافكار المستقبلية القادرة على المنافسة في عالم تتقدم بلدانه بحسن الحيازة للافكار المستقبلية وادارة العلاقة بالمستقبليات و ثقافتها وعلومها. غير ان الوصول الى تلك المهمة والقيام بها تقاطعه مشكلات جمة ومصاعب معقدة تتعلق باصلاح الخراب الذي لحق بمنظومة الوعى المديني واخلاقياته وقيمه والتي وإن كانت مقدماتها وطلائعها قد ظهرت في يوم من الأيام ابان مرحلة ما بعد الاستعمار عبر جيوش المتعلمين وسكان المدن من الطبقات الوسطى الا انه وتحت ضربات جحافل مؤسسات الجهل والتجهيل قد بات الى ركام من ذكريات وبقايا من مجد واستنارة يركن الى استذكار صورها السودانيون كلما استبد بهم الحلم لواقع افضل وساورهم الحنين لتاريخ مضى لبعض تشكيلاتهم الطبقية الاجتماعية فما عاد سارى الخدمة.
صحيفة السوداني
استاذ وجدي الأنباء الكاذبة لم تأتي من الاسافير قديماً كانت الصحف (الكيزانية ) كالوان حسين خوجلي
وكما تري الأن صحيفة الكيزان (الإنتباهة) وكتابها أمثال ( هاجر ) وإشاعة الكنقولية خير مثال
الكيزان هم من يفبركون الأخبار لتسميم المجتمع .
هل هناك اكبر من فاحشة (الأربعة في منتصف رمضان ) هم الكيزان