مقالات متنوعة

أيوب صديق يكتب: معارضةٌ بين الوطنية والعمالة

قد تتميز بعض البلدان في العالم بسمات تتفرد بها، ويتميز بلدنا بأشياء ذات طبيعة سلبية، منها ما ذكرتُه من قبل، ولا أزال أذكره، وهو حسدٌ شديدٌ متأصل في نفوس كثيرين من أهله، وله دورٌ كبير في إعاقة تقدمه. ثم خصوماتٌ سياسية فاجرة، يُعتبر الإنتقامُ من الخصم فيها الهاجسَ الأول الجدير بالتحقيق قبل كل شيء. ذلك مع إنكار جميع ما تركه ذلك الخصم،إن كانت بيده مقاليد الحكم. ويرى من تؤول إليه السلطة ضرورة التخلص من الإرث الذي تركه خصمه ما أمكنه ذلك، مهما كان ذلك الإرث طيباً وذا نفع عام، ولو كان في التخلص منه أبلغ الضرر والإضرار بالبلاد، التي لا يُنظر إليها بإعتبارها متسعاً للجميع، بل هي ملكٌ لمن تؤول إليه السلطة، ليفعل بخصومه فيها ما تمليه عليه نوازع خصومته السياسة، وكأنَّ دورة الحياة قد إنتهت عنده. وهذا النوع من السياسيين، قد لا يجول بخاطره من فرط نشوة الحكم قول الله تعالى (وتلك الأيام نداولها بن الناس).
من هذه السمات السلبية، ما ترتب عليها من أعمال سبقت تفجر الثورة، وما تبعها مما تعانيه البلاد حتى الآن، من خطأ في المقدماتِ نتج عنه خطأ في النتائج. فمن أسوأ ما سبق الثورة، موالاةُ بعضنا قوى خارجية يأتمرون بأمرها، بغية أن تحقق لهم تلك القوى ما يريدون تحقيقه، على حساب بلادهم عامة، إنتقاماً ممن هم في سدة الحكم. ومثلما كان ذلك أيام معارضة نظام الإنقاذ، كان قبله أيام معارضة نظام مايو. ففي بريطانيا مثلاً كانت البارونة البريطانية كارولين كوكس، من منظمة التضامن المسيحي، تتزعم جمعاً من المعارضين لنظام الإنقاذ، فتجتمع بهم، وتلقي على مسامعهم ما تريد منهم تنفيذه في بلادهم نكاية بالنظام الحاكم فيها. وكان مما زاد من تدخل البارونة كوكس في الشؤون السودانية، الرغبة الجامحة من أولئك المعارضين، في إضطلاع الجهات البريطانية بدور أبرز في محاربة النظام، مما يسرع بإقصائه عن السلطة، وما يبديه أولئك المعارضون من تهالك نحو السلطات البريطانية في سبيل ذلك،ثم موقفُ السفير البريطاني في الخرطوم آنذاك، بيتر استريمز، الذي كان يجاهر بعدائه لنظام الإنقاذ. وربما شجعه هو الآخر على ذلك، موقف المعارضين السودانيين المتخذين من لندن موئلاً وظهيراً. وقد نُقل عن ذلك السفير القول:(إنني لن أغادر هذا البلد حتى أشهد سقوط هذا النظام) وقد حضرتُ مع عدد من الصحفيين البريطانيين، لتغطية الإحتفال السنوي لثورة الإنقاذ، سنيَ وجود ذلك السفير في الخرطوم. وفي ساحة الإحتفال شاهدتُ عدداً من السفراء، وعندما سألتُ أحد المسؤولين عن السفير البريطاني قال إنه لم يحضر، وعلمتُ من ذلك المسؤول أنه لم يستغرب عدم حضوره لموقفه المعروف من النظام.
أثناء وجود ذلك السفير في الخرطوم زار كبير أساقفة كانتربري جورج كيري السودان، ولم يزر الخرطوم، وإنما مكث أيام زيارته كلها في مناطق المتمردين، والسبب في ذلك كما علمتُ من أحد المسؤولين، أن السفير وضع كل العراقيل، أمام استضافة الحكومة لكبير الأساقفة في الخرطوم، وجعله يذهب إلى المناطق التي كانت تحت التمردين. وبسبب ذلك التصرف من السفير أمر الرئيس البشير بطرده من البلاد، حيث أمهل أسبوعين لمغادرتها،وكان ذلك في ديسمبر1993م وقد أحدث طرده دوياً في لندن، وكان من الأخبار التي إحتلت مكاناً الصدارة في الصحافة البريطانية، حتى قيل إن السودان هو أول بلد كان مستعمرة بريطانية يطرد سفيراً بريطانياً من أرضه. وكما كانت تلك الخطوة مفاجئة للجهات البريطانية، كانت مفاجئة كذلك لجماعات المعارضة السودانية في العاصمة البريطانية.
ولا بد أنه كانت هناك صورٌ مماثلة لكوكس أخرى، ولمؤتَمرين آخرين بأمرها،في بلاد أوربا الأخرى وفي الولايات المتحدة. ومما يناقض تلك الصورة من عدم التفريق بين العمل ضد نظام الحكم والعمل ضد الوطن،أنه أثناء فترة بيل كلنتون رئيساً للولايات المتحدة، زار بريطانيا رجل الكونغرس المعروف عن الحزب الجمهوري، السناتور بوب دول، وسأله أحد الصحفيين البريطانيين سؤالاً عن الرئيس بيل كلنتون، فقال له السناتور الجمهوري، إن كلنتون هو خصمي سياسياً، فإذا أرتُ أن أتحدث عنه فسأتحدث عنه في أمريكا وليس هنا. وكم من خصم سياسي سوداني يشنع ببلاده في لندن التي استنكف بوب دول الحديث فيها عن خصمه السياسي الديمقراطي الرئيس بيل كلنتون! وفي غيرها من مَهاجر المعارضة السودانية. وظلت هذه المقارنة راسخة في ذهني زمناً طويلاً.ر
في في حتى ح ومن قبيل ذلك، ما أخبرني به ذات يوم رجل أعمال سوداني في دولة الإمارات، وهو معارض يمقت نظام الإنقاذ. قال لي إنه كان على وشك إبرام صفقة تجارية مربحة، قد تعود بالنفع على السودان، ولكن إنبرى لي معارضون للنظام، فأصروا على عدم إكمالها، لأنهاعندهم ستدعم النظام، وعندما قلتُ لهم إن ذلك في صالح البلد قالوا إنهم يهمهم فقط محاربة النظام.
كذلك من أبرز صور الخصومة والكيد السياسي، اللذين يؤديان إلى العمالة توشحاً وإتِّزاراً، ما نشره الصحفي المختص في شؤون الشرق الأوسط بوريك فريدمان، في أخبار وكالة (بان باسفيك) عندما دعته مستشارة الأمن القومي سوزان رايس، لمناقشة أمر عاجل متعلق بمصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وقال فريد مان: (عند دخولي البهو المؤدي إلى القاعة الرئيسية بإدارة الشرق الأوسط بوزارة الخارجية، كان من ضمن الشخصيات الموجودة هناك شخصيات إفريقية الملامح، عرفتُ فيما بعد أنها من السودان، رجلان وإمرأة، أحدهما يدعى عمر كمر الدين، ويعني (قمر الدين) والآخر لا أذكر اسمه. والمرأة علمتُ فيما بعد أنها أصبحت وزير للرياضة في بلدها السودان). ويقول فريد مان، كانت رايس تتحدث عن السودان بإعتباره دولة تهدد الأمن القومي الأمريكي وأنه لابد من تطويقها، وأن هناك خطة تم إعدادها لإزالة النظام الحاكم، وأن هؤلاء الناس من السودان يشاطروننا الرأي وسيدعمون وجهة نظرنا، وسيقومون بكل ما من شأنه إزالة نظام البشير. ومضى الصحفي يقول، إنني عكفتُ على دراسة أوضاع هذا البلد(السودان) وكم هالتني المفاجأة الأولى أن السودان حقق في تلك السنة أعلى معدل نمو في العالم( 5.2) ولكم أن تحكموا بأنفسكم، إذ كان معدل النمو في الولايات المتحدة (2.3) وفي الصين (3.5).ثم قال إنني علمتُ بأن سبب هذه النسبة العالية من النمو هو استخراج النفط لأول مرة، واستخراج معدن الذهب، ثم أخذ الصحفي يتحدث عن شراكة السودان القوية مع بلدان مثل الصين وماليزيا والهند وإيران وحتى البرازيل. وقال لقد علمتُ عدم تجانس هذا النظام مع الغرب عموماً والولايات المتحدة خاصة، ثم علمتُ سبب نقمة الولايات المتحدة على هذه البلد واستعانتها بسودانيين يحملون الجنسية الأمريكية، وناقمون على نظام الحكم لأسباب لا أعلمها. ولكنني لا أستطيع وصف هؤلاء السادة إلا بالخيانة لوطنهم والتواطؤ مع من يريدون الإضرار به، خاصة عندماعلمتُ أن أحدهم أصبح وزيراً للخارجية والمرأة أصبحت أصبحت وزيرة للرياضة. ثم يتساءل بوريك فريدمان قائلاً: (إذا لم تكن هذه هي العمالة والإرتزاق فبربكم ما هي؟!)..
لعل ذلك الشخص الثالث الذي لم يعرفه بوريك فريدمان في مجلس سوزان رايس، وقد نُشرت له صورٌاً في مجالس له مع مسؤولين أمريكيين،هو الرجل الذي صار وزيراً للعدل في بلادنا،حيث تولى من خلال تشريعات صاغها محاربة دين الأمة في أبشع صور لتلك المحاربة، ولايزال يقوم بذلك تنفيذاً لما أُمر به.ولقد قطع هذا الوزير شوطاً بعيداً في محاربته دين الأمة، حيث يدفعه طموحُ وهمِه إلى بذر ما يُخرج الأمة السودانية من دينها في يوم من الأيام. ولا سيما أنه قد خرج علينا قبيل أيام مفتخراً بأنه وقع على ما يُسمى الإتفاقيات الإبراهيمية، وهي عقيدة للديانة الأمريكية، التي أوكلت إلى عملائها مهمة إحلالها محل دين التوحيد الذي هو الإسلام، الذي كان خاتم رسالات السماء إلى الأرض.ووزير العدل الذي أوكلت إليه هذه المهمة، شاهدتُه على شاشة التلفزيون ذات يوم وهو يخبرنا بما درسه في كلية الحقوق من فروع الشريعة الإسلامية، التي لا بد أن تكون قد مرت عليه فيها الآية التي تقول:(مَاكَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلَا نَصْرَانِياً وَلَ?كِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)آل عمران..(67). وترمي الإتفاقيات الإبراهيمية الأمريكية، إلى دمج عقائد الإسلام والمسيحية واليهودية في دين واحد، بإعتبارها عقائد تعود إلى رسول الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وهذه محاولة تُبنيت في مصر بُعيد إتفاقية كامب ديفيد، بإقامة مجمَّع يمثل العقائد الثلاث، الإسلام واليهودية والمسحية. وقد إنبرى للإفتاء ببطلان ذلك على رؤوس الأشهاد، العالم المصري الجليل الشيخ صلاح أبو إسماعيل عليه رحمة الله. وكان كثيرٌ من العلماء آنذاك يعلمون بطلان ذلك لأنه يناقض عقيدة التوحيد ولكنهم جبنوا عن قول الحق في وجه السلطان.
ووزير العدل عندنا نصرالدين عبد الباري، له صنو في نظرته إلى عقيدة التوحيد، وهو زميله نصر الدين مفرِّح، وزير الشؤون الدينية والأوقاف،الذي قال من قبل إن الله لم يرد دينا واحداً، نافياً عن جهل أو إعتقاد، أن الإسلام الذي ختم به الله تعالى رسالاته إلى الناس، هو ما أراده لهم، وأنه وبنص قرآنه لن يقبل سواه، وذلك في قوله تعالى:(وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[آل عمران:85]وقيل إن نصر الدين مفرِّح ينوي بناء كنيسة في تمبول، في منطقة لا يوجد فيها نصراني واحد. وربما في برنامج السيد وزير الشؤون الدينية والأوقاف، تنصير عدد من سكان سهل البطانة، أو العمل مساعدة جهات تقوم بذلك التنصير تحت إشرافه، حتى تكون عند الناس هناك كنيسة جاهزة ذات يوم إذا تنصر من بينهم نفر منهم.
وربما لم يعرف مستر بوريك فريدمان، أن ذلك الرجل الذي رآه في إجتماع سواز رايس، والذي أصبح كما قال وزيراً للخارجية، والذي وصف دوره فيمن وصفهم بالعمالة والإرتزاق، أخذ يفتخر أثناء توليه منصبه بأنه ساعد على فرض العقوبات على بلاده،وأنه هو من كتب بيده نصها؟ ومن عجائب ذلك الرجل وبعد أن أصبح وزيراً للخارجية، وفي مقابلة أجرتها معه قناة (الحدث) الإخبارية بعد رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب قال:(لقد ظلت هذه البلاد تحت طائلة العقوبات التي فرضتها هذه القائمة،أو وجودنا في هذه القائمة لما ينيف على سبعة وعشرين عاماً. وقد استطعنا بإيمان هذه الحكومة وهذا الشعب بأنهم ليسوا من الإرهابيين أو من داعمي الإرهاب بأي شكل أو بأية وسيلة، وبهذا الايمان استطعنا أن تضع حداً لوجودنا في هذه القائمة) هذا نص قوله. يقول ذلك وهو الذي كان من الداعين الولايات المتحدة على الدوام وبكل الوسائل، إلى الإبقاء على العقوبات على بلاده لرعايتها الإرهاب، وقد رؤي وهو يخطب في جمع من الناس دعيا إلى عدم رفعها.
أأصيولا أدري إن كان بوريك فريدمان قدعلم أنه لدينا الآن في السودان رئيس وزراءَ يتلقى هو وطاقم مكتبه مرتباتهما بالدولار بدعم من وكالة التنمية البريطانية،أو من دافع الضرائب البريطاني على الأصح! وبهذا الوضع يعمل رئيس وزرائنا وكأنه جيء به منتدباً من تلك الوكالة. ولما كان لا يتلقى مرتبه من دافع الضرائب السوداني، فإن الشعب السوداني لا يستطيع محاسبته، لأنه لم ينتخبه، ولا يدفع له مرتبه من خزينته العامة أو هكذا تبدو الصورة . وتلك الجهة التي تبدو وكأنها إنتدبته إلينا يُعتبر دفع الضرائب في بلادها من أهم البنود التي لا يُسمح بالتهاون فيها، ويُعتبر فيها التهرب من الضرائب من أكبر الجرائم. ترى هل تُرسل هي إليه استمارة الإقرار الضريبي السنوية لتعبئتها؟ لأنهم في بريطانيا كما قلتُ لا يتساهلون في ذلك، والشخصية الوحيدة التي لا تدفع ضريبة في بريطانيا هي الملكة فقط. أما بقية الأسرة المالكة فمن ولي العهد إلى آخر فرد فيها فيُلزم قانوناً بدفع ضرائبه سنوياً. وحتى البريطانيون الذين يعملون في الخارج في مؤسسات بريطانية ويتلقون مرتباتهم من الخزينة البريطانية تُرسل إليهم استمارة الإقرار الضريبي لتعبئتها، ورئيس وزرائنا منهم.
إن تلقي رئيس وزرائنا دعم شهري على الراتب من دولة أجنبية، لهي حالة فريدة لا توجد في أي بلد مستقل في العالم غير بلدنا، الذي نال استقلاله من دولتي الحكم الثنائي قبل خمسة وستين عاماً.

صحيفة الانتباهة