روشتات الصندوق .. تفاصيل الصدمات والمخاطر والتشوهات
يبدو أن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية ستمضي إلى مزيد من التفاقم حال إنفاذ المتبقي من برنامج صندوق النقد الدولي الإصلاحي خاصة فيما يتعلق بتحريك الدولار الجمركي فى ظل ارتفاع معدل التضخم.. تلك التحذيرات أطلقها خبراء الاقتصاد، فهل تسهم إصلاحات الصندوق فى إنقاذ الاقتصاد أم مفاقمة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية؟!
ما هي الروشتة؟
تستند برامج صندوق النقد الدولي التي يتم الاتفاق عليها مع البلدان الأعضاء إلى ما يعرف بـ”توافق واشنطن”، وهذا التوافق هو عبارة عن مجموعة وجهات نظر حول استراتيجيات التنمية، وكان (توافق واشنطن) يعد ردا على الدور الرئيسي الذي كانت تقوم به الدولة في الدول النامية في المبادرة بالتصنيع عبر سياسة إحلال الواردات خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
فقد نص (توافق واشنطن) على أن هذا العصر المستند لتدخل الدولة قد ولى. وتحتوي برامج الصندوق على ثلاث أفكار رئيسية كبرى: الفكرة الأولى هي التمسك باقتصاد السوق وفقا لصيغته النيوليبرالية التي يميل بعض الاقتصاديين إلى توصيفها على أنها “أصولية السوق” حيث الإيمان المطلق بأن الأسواق تصحح ذاتها وأنه ينبغي عدم التدخل في عملها على الإطلاق على الرغم من أوجه عديدة معروفة لقصور هذه الأسواق.
والفكرة الثانية هي الانفتاح الاقتصادي على العالم، والفكرة الثالثة هي انضباط الاقتصاد الكلي.
ويطالب البرنامج المعياري لصندوق النقد عادة بعشرة إصلاحات، هي: الانضباط المالي بإزالة الدعم من الموازنة العامة للدولة، وتغيير أولويات الإنفاق العام بالانسحاب من الدعم إلى زيادة الإنفاق على الصحة والتعليم، والإصلاح الضريبي من خلال توسيع القاعدة الضريبية وخفض مستويات الضريبة، والعمل على وجود أسعار فائدة موجبة، وذلك عبر آليات السوق، وضرورة توفر أسعار صرف توازنية يتم تحديدها في السوق الحر، بحيث تضمن التنافسية، وتحرير التجارة وانفتاح الاقتصاد، وتحرير تدفقات رأس المال، وعدم فرض أية قيود أمام الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وخصخصة الشركات العامة، وتحرير الأنشطة الاقتصادية من القيود والضوابط التنظيمية الحكومية، وتقديم ضمانات قوية لحقوق الملكية.
ويمكن تنظيم النقاط العشر السابقة تحت مجموعتين رئيسيتين: فمن ناحية أولى هناك تدعيم الاستقرار الاقتصادي من خلال الهيكلة المالية واتباع آليات السوق بصورة رئيسية، وهناك من ناحية ثانية خفض كبير في دور الدولة في الاقتصاد، وكان التقشف دائما هو العنوان الأساسي في برامج الصندوق في الاقتصادات التي تمر بمصاعب اقتصادية.
والواقع أنه رغم أن الدافع لصياغة توافق واشنطن بالصورة التي صيغ بها كان دافعا ظرفيا تمثل في مرور بلدان أمريكا اللاتينية خلال ثمانينيات القرن الماضي بمشكلات اقتصادية ضخمة، كان من أهمها التضخم المفرط ومشكلة الديون الخارجية، إلا أن هناك روشتة موحدة فرضت على جميع البلدان النامية من قبل صندوق النقد الدولي، ومهما كانت أوجاعها الاقتصادية تختلف عن أوجاع قائمة بلدان أمريكا اللاتينية.
وكان هم هذه الروشتة هو تحقيق انفتاح اقتصادات الدول النامية على الاقتصاد العالمي، وتحقيق الانضباط المالي خاصة تحقيق انضباط الأسعار بسبب التضخم المفرط.
ماذا قال الصندوق عن السودان اخيرا؟
صندوق النقد الدولي قال إن الحكومة السودانية أحرزت تقدمًا ملموسًا في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية التي يراقبها، لكنه أشار إلى أن الوضع ما يزال “هشًا للغاية” في ظل انخفاض النمو وارتفاع معدل التضخم..
وقالت مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، في بيان، الاثنين الماضي: “السلطات السودانية احرزت تقدمًا ملموسًا نحو إنشاء سجل إنجازات قوي للسياسة وتنفيذ الإصلاح -وهو مطلب رئيسي لتخفيف عبء الديون في نهاية المطاف مضيفة “ما يزال الوضع الاقتصادي في السودان هشاً للغاية، مع انخفاض النمو والتضخم المرتفع والموقف الخارجي الضعيف، مما يشكل تهديدا لاستقرار الاقتصاد الكلي وبرنامج الحد من الفقر.
كما طالبت جورجيفا الحكومة السودانية بتنفيذ إصلاح سعر الصرف الجمركي في الوقت المناسب لزيادة الإيرادات والقدرة التنافسية، وتجنب العودة إلى تدابير السياسة المشوهة، بما في ذلك ممارسات سعر الصرف المتعدد والإعانات المالية، مشيرة إلى أن الشفافية في إدارة الشركات المملوكة للدولة أمر حيوي للتخفيف من المخاطر المالية وتحقيق المزيد من الإيرادات في الميزانية”.
تقييم الخبراء.. الروشتة زادت المعاناة
ويرى خبراء اقتصاديون أن تقرير صندوق النقد الدولي عن الاصلاحات الاقتصادية إيجابي لكن روشتة الصندوق أسهمت بشكل كبير في زيادة معاناة المواطنين.
ويرى المحلل الاقتصادي برفيسور عز الدين ابراهيم فى حديثه لـ(السوداني) أن تقرير الصندوق جيد، بيد أنه كالعادة يطلب من الحكومة مزيدا من الإصلاحات، لافتا إلى أنه يركز على أن الصعوبات التي يعيشها المواطنون أن الحل الوحيد لها هو الدعم الأسري، مؤكدا أن ذلك الدعم غير كاف كما أنه يجابه صعوبات أيضا، مردفا ليس كل ما هو مقبول اقتصاديا معقول سياسيا واجتماعيا. وتابع: عادة برنامج الصندوق يتزامن معه معونات مالية، وحاليا السودان ينفذ في برنامج سنده الوحيد الشركاء ولم يتحقق منه سوى القدر القليل.
التنفيذ الكامل.. ميزان المدفوعات مشرف
ويمضي ابراهيم الى أهمية عدم اتباع كافة برامج الصندوق بشكل كامل وعلى الحكومة أن تنفذ ما ترى انه لا يحمل المواطن أعباء خاصة في الجوانب المعيشية، منوها إلى أن هناك سياسات مثل السياسة النقدية يظهر اثرها تدريجيا خاصة فيما يتعلق بتحجيم الكتلة النقدية الذي تم عبر رفع الاحتياطي القانوني للجهاز المصرفي من ١٨ إلى ٢٢٪ مشددا على أهمية رفعه إلى ٣٠٪كما كان فى العام ١٩٩٤م لمعالجة الوضع الحالي خاصة وأنه مشابه لما كان فى تلك الفترة، منوها إلى أن الوضع الخارجي بميزان المدفوعات هش. وتابع أن ميزان المدفوعات هو الشيء الوحيد المشرف في الاقتصاد السوداني خاصة أنه ليس فيه عجز واضاف: يشمل ذلك الميزان اربعة موازين هي الميزان السلعي ويسمى التجاري وهو الذي فيه عجز ما بين ٤ الى ٥ مليارات اما الميزان الثانى فيمثل المعاملات غير المنظورة وتدخل فيه الخدمات وتحويلات المغتربين، والثالث يدخل فيه صافي رأس المال الاجنبي فى الاستثمارات، بينما يمثل الميزان الرابع تعاملات البنك المركزي التي تضم الانخفاض والزيادة في الاحتياطيات الخارجية للبنك المركزي.
ويشدد ابراهيم على ضرورة تخفيض الرسوم الجمركية حال وضع زيادة في الدولار الجمركي وتحييد تأثيره حتى لا ينعكس على اسعار السلع المستوردة للمواطن، مردفا أن السياسات التي وضعتها الحكومة في تحجيم الكتله النقدية سيكون لها آثار إيجابية ولابد من أن تحاول الحكومة ايجاد منح ومساعدات تسند تلك السياسات.
مطالبات الصندوق.. تغيير سعر الدولار الجمركي
من جانبه يذهب المحلل الاقتصادي د.محمد الناير في حديثه لـ(السوداني) الى أن الحكومة نفدت معظم متطلبات وروشتات الصندوق ولا خيار له غير أن يثني على تلك الخطوات، مشيرا إلى أن هناك مخاطر تتعلق بتوحيد سعر الصرف وزيادة أسعار المحروقات والدواء والكهرباء والمياه وأضاف: بذلك أثر الصندوق سلبا على معيشة المواطن، منوها الى أنه رغم ذلك لم تكتمل رَوشتة الصندوق، فهناك متطلبات من الصندوق بتغيير سعر الدولار الجمركي.
وأكد الناير أن على الحكومة أن تطبق فئات جمركية بدلا عن دولار جمركي واحد وأضاف: لا يعقل أن يتم تحرير سعر الصرف للدولار و الجمركي إلى ٣٧٧ .. منوها الى أن الخطر القادم هو مسألة الدواء خاصة وأن الدولة كانت تحسب أسعار الدواء بسعر 55 للدولار بالتالي هناك أزمة حقيقية أدت إلى توقف العديد من الصيدليات ونفاذ قدر كبير في احتياطي البلاد من الأدوية مما ينذر بكارثة.
وشدد الناير على أنه من الصعوبة على اقتصاد السودان واوضاعه الحالية إنفاذ ما بقي من روشته الصندوق، وقال: لذلك وصف التقرير الاقتصاد السوداني بالهش بسبب ارتفاع معدل التضخم وصعوبة تحقيق النمو.
تشوهات اقتصادية متحيزة.. ضرورة الإزالة
فيما يرى المحلل الاقتصادي د. هيثم محمد فتحي في حديثه لـ(السوداني) أن التشوهات الاقتصادية هي الوجه الآخر للحوافز والدعم لكافة شرائح المجتمع لتحقيق النمو وبعض العدالة الاجتماعية، مشددا على ضرورة الدراسات العلمية الدقيقة لتقدير حجم الأثر الاقتصادي والاجتماعي لأي قرار قبل إزالة أي تشوه ترغب بإزالته من الاقتصاد، وتابع أن التشوه الذي لا يحدث نموا وتنمية اقتصادية مستدامة وشاملة ولا يقيم العدالة هو الذي تجب إزالته.
وشرح فتحي حديثه بأن التشوه المتحيز لفئة قليلة من الناس غير مستحقة هو التشوه غير المرغوب، لافتا إلى أن الحكومة الانتقالية اجازت خطة الإصلاح فيها إلغاء دعم الوقود الكبير لإفساح المجال لمزيد من الإنفاق الاجتماعي، بما في ذلك برنامج دعم الأسرة في السودان والإنفاق الصحي مع توسيع القاعدة الضريبية، بما في ذلك من خلال ترشيد الإعفاءات الضريبية واتخاذ تدابير تجاه سعر صرف موحد ومقاصة السوق؛ يقابله الحصول على التمويل الكافي من المانحين لدعم السكان من خلال الانتقال الصعب إلى اقتصاد قائم على السوق يعمل بشكل جيد.
ويذهب فتحي الى أنه من الضروري حاليا استهداف سعر صرف توازني يساعد على تعزيز النمو الاقتصادي واحتواء التكلفة التضخمية للواردات والتخفيف من حدة مخاطر الصدمات على جانب العرض عن طريق تحقيق التوازن بين تشجيع الصادرات واحتواء توقعات التضخم، وقال إن أسعار السلع الغذائية شهدت ارتفاعات متتالية نتيجة التشوهات السعرية الناجمة عن الممارسات الاحتكارية والعجز فى المعروض من السلع نتيجة نقص الإنتاج وزيادة الصادرات، كاشفا عن الاختناقات فى المعروض نتيجة القصور فى قنوات التوزيع، مشيرا إلى أنه يأتي تحقيق الإصلاح الاقتصادي عبر ضمان الإدارة الرشيدة لموارد الدولة وأصولها الثابتة، وإزالة التشوهات الحادة والخطيرة في الاقتصاد مثل دعم الطاقة والكهرباء والوقود، على أن يتم اعادة توزيعها هذه الدعومات بطريقة عادلة وتلبية ما فرضه الواقع الأليم من رفع الإنفاق في مجالات التعليم والصحة والبحث العلمي، مردفا: الإصلاحات الاقتصادية ضرورية لإزالة التشوهات التى يعاني منها الاقتصاد السوداني ولذلك لابد من إصدار القوانين التى تعمل على تهيئة البيئة التشريعية اللازمة لجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية لتحقيق الإجراءات المطلوبة لتصويب مسار الاقتصاد السوداني ، والضرورة من الانتقال إلى المستوى التالى من برنامج الإصلاح الاقتصادي لتحقيق نمو اقتصادي شامل مدعوم بنمو الاستثمارات.
إصلاحات اقتصادية يراقبها الصندوق والبنك
وتُنفذ حكومة الانتقال إصلاحات اقتصادية يُراقبها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تتمثل في رفع الرفع عن الوقود والكهرباء والخبز وتخفيض قيمة العملة الوطنية، حيث تأمل الحكومة أن يؤدي ذلك إلى إعفاء ديون البلاد واستقطاب موارد استثمارية جديدة لإنهاء الأزمة الاقتصادية.
وبدأت الحكومة السودانية في تنفيذ برنامج دعم مالي للأسر بتمويل من الشركاء الدوليين، وهي دعم يبلغ 30 دولار (11 ألف جنيه تقريبًا) لكل أسرة مكونة من 6 أفراد، وتخطط الحكومة لتعميم هذه الدعم على 80% من السودانيين في الفترة المقبلة.
وأدت الإصلاحات الاقتصادية المنفذة على يد حكومة الانتقال إلى انعدام القدرة الشرائية لكثير من المواطنين نتيجة خفض قيمة الجنيه وارتفاع معدل التضخم، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أعداد الذين في حاجة إلى مساعدات إنسانية في بلاد تعاني أصلًا من الفقر.
الخرطوم: الطيب علي
صحيفة السوداني