عبد الحفيظ مريود يكتب.. إدماج
الفتاةُ الإنجليزيّةُ الشّابة، قبل الثلاثين من العمر قليلاً، ناصعة كالصّدق، حلوةٌ كالأصدقاء – كما يقول د. بشرى الفاضل. تشرحُ في مبنى مجموعة الأزمات الدّوليّة، بالعاصمة البلجيكيّة بروكسل، كيف تغوّلتِ المجموعاتُ العربيّة على أراضي الأفارقة في دارفور. قدّمتْ عرضاً مزوّداً بالأرقام وصور الأقمار الاصطناعيّة للمنطقة الواقعة بين الجنينة وزالنجى. تمَّ تهجير، حرق وتدمير هذه القرى، وتشريد أهلها والعسف بهم. قالتْ لنا إنّها قدِمتْ قبل أسبوعين، فقط من دارفور، والتي زارتها أكثر من عشرين مرّةً، منذ اندلاع الأزمة. كان حديثها ذاك عام 2005م، والأزمة اندلعتْ عام 2003م، أي خلال عامين ذهبتْ كلَّ هذه المرّات، لتلتقط صوراً، لتتحرّى وتتدقّق حول ما يجري في الأرض. كان سؤالي – في الأثناء – ما الذي يغري فتاةً إنجليزيّة نّاصعة، مثل لغة جمال الغيطانيّ، أو فلقة الصّبح أنْ تتكبّد المشاق، لتقومَ بما تقوم به؟
كان سؤالي يستدعي حكاية الممرضة الإنجليزيّة، واصفةً رحلتها، في أوّل العشرينات من القرن العشرين، من لندن حتّى الأبيّض، في كردفان. حيث مقرّ خدمتها الجديد، وهي حديثة عهدٍ بالخدمة المدنيّة. الحكاية ضمن “حكايات كانتربيري السُّودانيّة”، الكتاب الذي قام بنشره مركز عبد الكريم ميرغني بأم درمان. الممرضة كانتْ تتحمّل المشاق، في عالمٍ مغاير تماماً لعالمها، لتخدم بلادها، ضمن طاقم حكومة جلالة الملكة. مؤمنة بأنَّ تلك مهمّة مقدّسة. حتّى ولو كان الوضع في أفريقيا التي يستحيل على أحدٍ أنْ يأتلفَ معها. ذلك ما يجعل من “سؤالي غلط”، كما يقول محمود درويش، “لأنّي نمط”.
الفرحةُ الغامرة للسياسيين الجُدُد، من قادة الحرّيّة والتغيير، ومن مُستجديْ السياسة، بعودة السّودان إلى الاندماج في المجتمع الدّوليّ، تستدعي الدّهشة، أكثر من الاندهاش لفتاة إنجليزيّة شابّة، ناصعة مثل خبز الفقراء، حاصلة على ماجستير في العلوم السياسيّة، تجعلُ من “أزمة دارفور” محور حياتها. ذلك لأنَّ المُنتصبين زهواً باندماج السُّودان في المجتمع الدّوليّ يجهلون، أو يتجاهلون شروط هذا الاندماج، وتبعاته، والأخيرةُ هي الرّاجحة. وذلك على خلفية أنَّ أكثرهم يدرك ذلك ويعيه جيداً، وينخرط فيه، بوعيّ، عِوَضاً عن الانخراط في مشروعٍ وطنيّ جادّ، ومتماسك. فالعودةُ إلى المجتمع الدّوليّ تعنى – ضمن ما تعنى – القبول بمنظومة القيم الأخلاقية والسياسيّة التي تحكم هذا النّادي. وهي منظومة تتصادمُ في غالبها – جوهريّاً – مع منظومة ظلَّ يتبّناها المجتمعُ السُّودانيّ – طوال تاريخه – وإنْ بدا أنّه لم يفعل، وإنْ حاول الكثيرون ربطها بالنّظام السّابق.
الاعتراضاتُ الجوفاء التي كان يبديها نّظامُ الإنقاذ على منظومة القيم الغربيّة، لا تعدو أنْ تكون ذرّاً للرّماد في العيون. ولم يكنْ جادّاً فيها، إلّا بقدر ما تضمنُ له البقاء متسيّداً على الآخرين. ولو اقتضى بقاؤه الانخراط في هذه المنظومة، لفعل. وكان قد بدأ بالفعل مساومات ومفاوضات في سبيل ذلك. فهو يصلّي بلسانٍ ويغنّي بلسان، كما قال الشّاعرُ الفحل د. محمّد عبد الحي. وليستْ خطوات بروف غندور، وزير الخارجيّة الأسبق، التي أوصلتِ السُّودان لرفع العقوبات الأمريكيّة، إلّا رأس جبل الجليد من المساومات التي كانتْ جاريةً. وكانتِ الإنقاذ لتصلَ إلى ما وصلنا إليه، على أيدي “قحتْ”، تماماً، لو أنّها بقيتْ حتّى الآن.
المصادقة على سيداو، مطلق القوانين المتعلّقة بالأحوال الشخصيّة، المقيّدة للحرّيات، سياسات البنك الدّولي، ومجمل الأطر المفاهيميّة للغرب، ذلك هو معنى “العودة إلى المجتمع الدّولي”. سيغلّفُ السياسيون الجُدُد كلَّ ذلك بعبارات رنّانة. تُذيّلها عبارة “بعد ثلاثين عاماً من الظّلام”. وهي الفخُّ الأكبر. لأنَّ الإنقاذ كانتْ قد بدأتْ تراجع لتلغيَ قانون النّظام العام، تتفاوض على الشّروط الأمريكيّة للرّفع من قائمة الدّول الرّاعية للإرهاب، تتفق على تعريف أمريكا للإرهاب، وتتعاون معها. تسلّم الإسلاميين، تتفاوض سرّاً مع إسرائيل نفسها.
تخدمُ الأهداف تلك، جنودٌ وجنديّات من على شاكلة الفتاة البريطانيّة النّاصعة كالأرز باللبن، أو الممرضة التي تخدمُ حكومة جلالة الملكة. بمثلما فعل ونجت، كتشنر، هنري ويلكم، ماكمايكل، آركل وغيرهم. وهو ما جعل إسرائيل تتقدّم بالشّكر للاتحاد الأوروبي، “الذي لولاه، لما كان لنا موطئ قدمٍ في دارفور”.
سنندمج، بحمدوك، غندور، قوش، صدّيق يوسف، علي الرّيح السّنهوري، البرهان، مريم الصّادق، أو بغيرهم… فهلمّوا في حندسٍ نتصادم.
صحيفة الصيحة