عبد الحفيظ مريود يكتب.. نقصٌ حاد
كان مديرُ المخابرات السُّودانيّة جالساً إلى وزير الدّفاع الكنغولي، حين دخلَ عليه الضّابط. سألَ عنِ المهمّة، فقال له مديرُ المخابرات إنَّ معالي وزير الدّفاع يريدُ أنْ يقابل أخاه الشّقيق، الذي قدِمَ إلى السُّودان منذ ثلاثين عاماً، ولا يعرف عنه شيئاً. استلمَ الضّابطُ المهمّة. يجب أنْ يجلبَ شقيق الوزير، الذي أعطاه اسماً فقط. حيّا معالي المدير والوزير وانصرف. سألتُه: “كيفَ ستبدأ مهمةً مثل هذه؟ ماذا فعلتَ تحديداً؟”. ابتسمَ ابتسامته العارفة المليحة، وقالَ لي “هل تعرف أين تجد الكنغوليين في الخرطوم؟”. قلتُ “لا.. طبعاً”. قال: “أخذتُ فرديْن من الجهاز وجُبنا برندات السُّوق الأفرنجي والعربي، نسألُ عن الشخص/ الشّقيق المعنيّ. لم يتعرّف عليه أحدٌ. السّاعاتيّة الموجودون في البراندات هذه هم الكنغوليون. يبدون لك على أنّهم جنوبيون من الإستوائيّة، صحْ؟ لكنّهم ليسوا كذلك. نحنُ نعرف منْ هم ومتى جاءوا إلى السُّودان. بعد لأيٍّ، دلَّنا أحدُهم على “شيخ الكنغوليين” في السُّودان. يسكنُ الكلاكلة القُبّة، ذهبنا إليه وداهمناه. وحين اطمأنَ إلى أنّنا لا ننوي به شرّاً، طلب منّا مهلةً نصف ساعة، قبل أنْ يزوّدنا بالمعلومات، لأنّه سيجري عدّة اتّصالات واستعلامات. بعد نصف ساعة، عدنا إليه، قال إنَّ الشخص المطلوب موجود في منطقة جبيت، بولاية البحر الأحمر. مساعد ضابطٍ “تعلمجيّ” شهير، ولكن باسمٍ آخر، هو هذا.
يأخذُ الرّاوي رشفةً من فنجان قهوته. تلمعُ عيناه الصغيرتان العارفتان، لمعة ذكية، يواصل بنصف ابتسامة: “دخلنا قاعدة الجيش في جبيت. شرحنا الأمر. طلب القائد مجئ “حضرة الصّول التعلمجيّ”، فجيئ به. قال له سترافق هؤلاء إلى الخرطوم. في طريقنا، وحين بلغ الهلعُ من حضرة الصّول مبلغه، وكانتْ فرائصه ترتعدُ، قلتُ له ليس هناك ما تخاف منه. هل عندك شقيق اسمه فلان؟ أجاب بنعم. قلتُ له إنّه صار وزيراً ووصل الخرطوم في زيارةٍ رسميّة ويريد أنْ يقابلك، هذا كلُّ ما في الأمر. عندئذٍ أخذ حضرة الصّول نفسه، وعادتْ عيناه إلى محجريْهما، وسكنَ جسدُ المُرتعش، المرفَضُّ.
“حين فرغ الشّقيقان من لقائهما، وخرجا إلينا، كان حضرة الصّول فرحاً. أعطاه شقيقُه الوزير دولاراتٍ كثيرة. سألت مُدير المخابرات، عن التّعليمات، قال ارجعوه إلى جبيت وعودوا. كانتِ المهمّة يومين أو ثلاثة. مثل ذلك يحدثُ مع رؤساء ووزراء كثيرين من دول الجوار. وغير دول الجوار. أقصُّ عليك قصص وزير الخارجيّة التشاديّ، أم الرئيس الجيبوتيّ وشقيقته التي تسكنُ أبو آدم، أم الرئيس الغاني وشقيقه في جبل أولياء؟ قلتُ إحكِ لي كلَّ ذلك.. ههنا الكثير من السجائر، والتمباك، وبائعة الشّاي تغري بإطالة الجلسة، “المافي شنو؟”… فاستمرَّ يحكي.
كان ضابطُ المخابرات حكّاءً من الطّراز الأوّل. وطنيّاً تدمعُ عيناه حين تأتي سيرةٌ تمسُّ البلاد، أو تنقص من قدر السُّودانيين. تخرّج في جامعة القاهرة فرع الخرطوم. خدم في منطقة القرن الأفريقي، يعرفه كما يعرف أحياء “قلع النّحل” مسقط رأسه. يعرف الصّومال، جيبوتي، إثيوبيا وإرتيريا معرفةً دقيقةً. خدم في منطقة البحيرات، يحدّثكَ عن يوغندا، كينيا، بورندي ورواندا كما يحدّثك عن أحياء القضارف. جمَّ الأدب والتواضُع، صاحب مفردةٍ رشيقة وأنيقة. وصّافاً دقيق الالتقاط للصور والأحاديث وما يجري أمامه. لمّاحاً حادَّ الذكاء. أصدر مجموعات قصصيّة وكتاباً في أدب الرّحلات.
تنقصُ بلادنا كلَّ يومٍ مبدعاً رقماً. علماً لا يُجارَى. تفقد كنوزها باستمرار، قبل أنْ يقولوا كلامهم. قبل أنْ يتركوا تجاربهم وخبراتهم للأجيال. ذلك هو القاصّ والكاتب عثمان أحمد حسن، الشهير بـ”عثمان قرنق”. عليه شآبيب الرّحمة. فقد كان عارفاً محبّاً ممتلئاً ألقاً ويقيناً.
صحيفة الصيحة